أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts

******* أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts *******

السبت، 28 نوفمبر 2020

اسطورة..قصة قصيرة للكاتبة الكردية السورية المغتربة: نـســريـن تــللـو

من أيقونات القصة القصيرة

اسطورة...

قوس كمانه يذرفُ عشقاً وشجن.. وبزاجل ألحانه , ينقل رسائله إلى حبيبته الجالسة على مرمى وردة منه . والوصال منهما على بعد مستحيلين أو أعلى .. ربما لم أكن في حسبان أحد , أنا الصغير حينها , المتكئ على باب الأحزان . و موسيقاه ترشقني بالأمل , انا وسبع وعشرون إنسان آخر من كل الأعمار , في تلك الفسحة الضيقة المحاطة بغرف مرتصة , وباحة على غير إتساع ، مشتركة للجميع . نتجنب أحزان بعصنا الشفيفة , ونغسل همومنا بين حينٍ وحين في جدول عزفه الآسر . حين تتتدفق ألحان الجزراوي محمد عارف ونحلق معها . ممو يعتقنا من ربق الأحزان للحظات وهو الموثوق على أعمدة الوعي الخشبي . فحبيبة ممو الزبدية يحكمها بكو العصري بكو المتحذلق بخطابات الحرية يغيّب خلف الأسلاك , حبيبة ممو الزبدية . وينهي قصة حبهما بطريقته . يسعدنا ممو للحظات . ثم يمضي . لنفيق من أحلامنا ونتلمس مرارة الحقيقة من جديد ؟ حين اعود من شرودي, أرى عمتي كأنها في البقية وحدها تواصل شرب الشاي القاتم . وتنفث دخان سكائرها . وتسفي رماد التبغ في فمها . بعد قليل نساء الحي سيأتين ليواسين عمتي , سيدة الأحزان .. فالجرح مازال ندياً .. ستعيد سرد المأساة . عمتي تُبكي ولا تَبكي , ترفعني من زيقي وتقول : هذا اكبرهم .. و كأني صلصال مفخور ، وليس مخلوق مكسور من لحم ودم .... كبرتٌ ومازالت يدها هاجساً يلاحقني . وشجن صوتها أسمعه : تركَتهم لي .. و هذا هذا أكبرهم . وأنا المتقلص بين عيون نساء الحي . نحيلا أمضي مرتبكاً أتملص خَجِلاً ..أتسرب من فتحات الباب الخشبي المترنح . أسير لصق الجدران , لكن إلى أين ؟ الشارع خيط والساحة نقطة .. يراني الأولاد يقول أحدهم : جاء بيكاس حرام هذا يتيم . .. أذوب أتلاشى أفقد بوصلة الإبصار . واسأل نفسي : لماذا أسرار البيت تتسلل قبلي إلى الشارع , تتسرب عبر الجدران . و الطين أمين على أسرار أهله, فلماذا يبوح بأسراري ؟ . تعاودني صورة أبي في أخر صبح غادرنا .. يلاطف أمي يسألها ماذا يلزمك لأحضره حين أعود .؟ يستدرك في مفترق البسمة عند الباب ليقول لها : انتبهي للأولاد حلمت أني أحمل كيسَ فاكهةٍ .. تمزّق كيسُ الفاكهة , وتدخرج مافيه في الطين ... الفاكهة في الحلم تعني الأولاد ..!!! تشتد على قلبي الغض الأوجاع .. فتراودني صورة أبي في كل منعطف.مؤلم , وهيئته في أخر صبح غادرنا ..
من أقصى الشارع يلوح عبد المعطي مديد القامة يتقدم وبيده أكياس شتى.. كأنه وصل لينقذني.. أجري إليه , يمسح شعري , لكني ألتفت للأولاد ليروني . وأحمل شيئا مما بين يديه . . مذ غاب أبي وتحطمت شاحنته الصغيرة , مالت الأرض بنا قليلاً ودخلنا نفق المجهول . . لكنّا بعدخمس شهور خالتها أمّي خمس دهور ، ألقتنا في اليم ، توارت .. وانقادت لنداء الجسد . حينها زلزلزت الأرض بنا . و الموت الأكبر داهمنا ، كنا ثلاثة أطفال ، متعرين لجلال قدومه . انتشلتنا عمتنا المترعة بالآهات . وزوجها عبد المعطي فتح ذراعيه الواسعتين . ليغطي يتمنا العاري .. عمتي اقترنت به منذ سنين بعد حزن بطول خمس سنين . وسقوط قرينها عن ظهر جواده تاركاً طفلته في أحشائها جنين . مضى الفارس وأترع صدرها بالآهات . ومن ذا الذي يقترن بها ويُنسيها المأساة ؟ رغم ملاحتها ونضارتها .. فالأرملة في أعينهم بيتاً مسكوناً بالأشباح . عبد المعطي أرمل مثلها أرمل .. ماتت زوجته حين وضعت طفلها الأول . نشأ الطفلان في كنف الزوجين هذين الأبوين . لكن ظُل عبد المعطي كان طويلاً بما يكفي . ليحمينا ويأوينا كي نتفيأ في ظله .
بين الفينة والفينة مازال أبي يتردد في الصمت المطبق وظلام الغرفة حين أؤوب إلى الفراش .
اخبره عن عبد المعطي ، أطعمنا علّمنا ... وصار أباً لثلاثتنا نحن الأيتام . لكني يا أبتي هل اخبرك ؟؟ .. أتوجس من يتم ثانِِ .. أه لو تعلم يا أبتي .. قلب المعطي بحجم بيت .. بيت يتسع للأيتام , لا مصدر رزق دائم بين يديه .. لكنه يفعمنا بحنانه ويملئ حياتنا بالسلام , ويأتي بكل ما نطلب . ووسط الظلمة يا أبتي اسمعك تلح عليّ , عن مبعث جزعي وموجبه . سأصارحك .. المعطي يتردد منذ عام لمشافي الشام . هو لا يحفل بالألم . وهذا يحزنني أكثر . فألم المعطي يا أبتي نبقى نحن .. يطوف بِمُرّ قهوته على المآتم والأفراح , ويعود ليصنع من مُرِها حلواُ كي يسعدنا . ويفرح حين يسعدنا . . يقول المعطي يا أبتي : سمعت الموت يناديني يقول : تعال يا عبد المعطي . ودعك من طرق الشام .. لم تترك للدود مرعى .. كفاك عذاب . لكن المعطي يقول : سأهزمه .. أو أجعله ينتظر في الدور طويلا . . ينتظر كي أغدو منيعاً اتحمل شطط الأيام بيال مازالت طفلة بيوار مازال غضاّ . والداء غافَل مُعطينا بحبالِ الصوت . . وأنت أبي .. أكنت نبي ..!! أسميتنا هذي الأسماء .. يغيب أبي .
اغفو وافيق .. والمعطي في رحلته لمشافي الشام منذ أيام . قد يصل عصر هذا اليوم . لكن الموعد فات . والهاتف رن .. الصوت من مشفى منبج .. هل أنت أبن المعطي ؟ المعطي مات .. منذ لحظات . هل مات المعطي بالسرطان ..؟ لا ليس سرطان , مات في الحادث . كان يتمتم وهو يموت .. هزمت السرطان الملعون ... يا لله !!! هل مات المعطي بالحادث ليعوضنا ببعضِ المال !! :كأن دمه المهدور أسمعه , يصهل في كل الطرقات . .
بيكاس يغسل مع الغاسل جسده الموجوع . ينظر في كفيه المفتوحين على الأبد . ناصعين أكثر مما كان يرى .. وخواء مريع خلفه . تعلو شهقته بالنحيب . كأن مرارة تيتمه وهو رجل , لأشد وبالاً من يتم طفولته .. يلتفت إليّ ويقول : فقدت النبيل .. نبيل منزاح عن المألوف , فقدت الرجل الاسطورة .. تجرع موته سعيداَ بنجاته من السرطان .. سعيدٌ بما ستجود به علينا شركة التأمين .. ترك لي تركة من نبل أصيل . فهل سأكون أهلاً لحمل رسالته ؟

هناك تعليق واحد:

مشاركة مميزة

الوجع ‏Diya Raman

سألت الدهر : متى ستمر سحابة الألم ؟ و متى ستمد يدك و تنقذني من الغرق من بحر الأوجاع ؟ أيها الليل كم أنت طويل !. مثل حقل شوك أمشي حافية في در...

المشاركات الاكثر قراءة