للأمكنة في قلوبنا حضورها الاستثنائي وخصوصيتها الشديدة ، هناك أماكن مغروسة متمكنة في أعماقنا حيث تهيمن على واقعنا إلى الحد الذي تفرض فيه صورتها علينا فتؤكد بذلك هويتنا وانتسابنا إليها .
في هذا الصباح شعرت برغبة وحنين جارف يشدني لزيارة البلدة القديمة داخل أسوار مدينة القدس الحبيبة، لم أفهم الأمر إلا أنني ومنذ أن وصلت إلى أول الأبواب في السور العتيق ، بدأت أحدق في قسماته وتفصيلاته بتأمل بالغ ، أعدت النظر مراراً وتكراراً لأثبت في ذاكرتي ما أراه ، قلت لنفسي ما أشاهده الآن قد يغيب عني غدا بعد معاودة السفر، لذا فعَلي أن أدقق في كل ما أراه لأختزن تفاصيل المكان ومعالمه، علّها تحنو علي الذاكرة يوما فلا يشوبها الظلال ! فأنا ولسببٍ مجهول لا أفهمه تختلطُ بذهني كل المشاهد والصور وتبدو كحكايات تخلو من أي حبكة أو إثارة، تفر الذاكرة مني وتتساقط كما تتساقط أوراق الخريف معلنة بذلك ولادة جديدة لأوراق زاهية لا زالت قيد الانتظار، فكل حدث أو فكرة ما لا تروق لي تسقط من ذاكرتي ، تبتعد عني وتتلاشى في غياب تام لتصبح قيد الضياع ، أتساءل أحيانا ما الذي يحدث ؟ لا تفسير لدي ، إلا أنني أتذكر بأن للنسيان فضائل فهو يحافظ على نقائنا ليشفي الذاكرة من الألم حتى لا يثقلها بالحقد حد الوجع ..
وقفت على أول الدرج في باب العامود – أجمل الأبواب التاريخية في سور المدينة الشامخ – ما أبهاه ! نظرت إلى هذا السور الذي بني في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني ، يأسرني هذا المكان وأشعر أني أتنفسه حتى امتلأ به فيُعييني الحنين لأعود إليه دائما كما الابن الضال ، يحدثني وأحدثه، هو جزء من الروح، يشبهني وأشبهه ، يحتويني وأحتويه ، أبث له شجوني وأبادله الإحساس بالإحساس ، وكم وددت عناقه لو استطعت ! فالحب ليس شعوراً بين كائنين فقط ، فالأماكن أيضا كالبشر ، لها أحضانها التي تهبنا الكثير من الحميمية والحنين .
هنا .. حين تدخل في عمق الزمن لن تشعر إلا وعيناك تفيض دمعا وحباً ، ها أنا أتأمل ما جَمَعَت تلك المدينة بانسجام بديع من ماضيها العريق وحاضرها الحزين ، أقف وجها لوجه أمام أسوارها العتيقةِ بجمالها العمراني الساحر وهندستها الأنيقة ، هي علماً ونشيداً حبا وكياناً لا يموت ، أشعر بعبق من التاريخ يفوح في كل مكان وتجتاحني نشوة المعرفة لكل ما هو حقيقي وأصيل، يختبئ بين زواياها بكل بهاء ، فكل حجر هنا يسرد حكاية من الزمان .
تأتيك تضاريس المدينة وتقترب منك لتشهد على حضورها الإنساني الساحر، بألوان حجارتها المعتقة ، تلك التي حفرت تراثا ً خلف ثنايا الزمن، وشموخ جبالها، ترابها، سماؤها وهواؤها ، أطفالها وشيوخها ، شوارعها وأسوارها ، مساجدها وكنائسها ، تمتزج معالمها بعبق من الأمس وعبير اليوم ، أنت هنا تنسحب من واقع مؤلم لتجد نفسك أمام حلم ممتع لتعيش حدا فاصلا ما بين الواقع والحلم .
في طريقك حين تمشي في أزقة السوق القديم تصطدم بالسائحين في كل مكان ، وترى حرفاً قديمة لا زالت تتحدى الزمن ممن ورثها أصحابها عن أجدادهم وآبائهم ، فتجد منهم العطار(بائع النباتات العلاجية والتوابل) وتجد السكافي (مصلح الأحذية) والنَحّاس (يُصَنِع النحاسيات وينقشها) والدباغ (معالج الجلود ومصلحها) والساعاتي (مصلح الساعات) والسنتواري (بائع المقتنيات الأثرية القديمة للسواح) والخياط والصائغ ، اللحّام والحلواني وغيرهم الكثير ممن يقاومون بحرفهم التقليدية مشاريع الحداثة من حولهم .
لم أشعر بسطوة الوقت ، فالتجوال في زقاق المدينة يمر خفيفاً على نبضات القلب والروح ، وبالكاد استطعت الإفلات من سحرها وفتنة أسرارها بعد ساعات من نهار كان استثنائياً بامتياز . هي القدس وهي الأم حيث يتكئ القلب فلا يستطيع إلا أن يزداد عشقاً وحباً لها، هي فقط من يبقى وهي فقط من نحب .
وحيث توجه وجهك سترى أبناءها ينشرون الأُلفة في أرجائها، هؤلاء لا تعنيهم عنجهيات السياسة بشيء ، فهم يرسمون سياستهم الخاصة عبر صمودهم وتلاحمهم وحبهم لمدينتهم ، ويا لتلك الروح في أحيائها وأسواقها، فهي تعج بالبساطة والفوضى والجمال ، فيها سر عجيب لا يدركه إلا من امتلك روحاً شفافة وقلبا صادقا . ستنبهر أمام كل من يصنع الحياة، فالناس هنا تبرع في صناعتها، يشكلونها بصياغة جديدة مدهشة مبهرة في الجوهر والعمق ، فيحيكون منها نسيجاً جميلا من الأمل والانتظار ..
أن تعيش في مدينة القدس فهذا يعني أن تدخل معترك الصراع والمعاناة وأنت بكامل الجهوزية لتلك الرغبة الصادقة في الحياة .. أن تعيش في القدس فهذا يعني أن تستذكر كل أحلامك التي كانت والتي ستكون أو قد لا تكون ! أن تعيش في مدينة القدس فهذا يعني أنك تدرك بأن حاضرك العصيب ممتداً منذ الأزل، من أول الماضي الحزين إلى أول الآتي البعيد .. أن تعيش في مدينة القدس لا بد وأن تدرك المعنى الآخر لكلمة صمود، صمود في وجه الأيام ، الحزن والفرح ، وصمود الأمهات المتألمات في أعراس الشهادة .
ولأمهات الشهداء هنا حكاية ، فهل حدث وحدقتم ولو لمرة في عيون الأمهات ؟ ترى ما يؤلمها أكثر ، أهو الجرح الغائر في جسد الشهيد أم دمه النافر ؟ أم حزنها حين تسللت روحه مبتعدةً لتترك المكان ؟! القصص هنا كثيرة وأكثرها تحكي قصص الألم، فما نحن إلا حكايات موغلة في الذكريات والحزن، وفي لحظة اشتباكي بكل ما مر بي من مشاعر وأفكار حول واقع المدينة ، أخذني ذلك الإحساس إلى عمق حزنٍ معتم ، متخم بالكثير من الخيبة والوجع ، تلك الخيبة الموجعة التي قد لا تبشر بالفرج ، إذ لا يمكن أن نتأمل واقع المدينة ووقعه على أنفسنا وأرواحنا بمعزل عن الألم ..
مدينتي الحبيبة .. نعم ، أمتلك ذاكرة مثقوبة إلا أنني لا أنساك أبداً ولا تغيبين عن ذاكرتي لأسترجعك، فحضورك كامل بهيٌ فيها، فأنت الشمس التي تضيء نهاري كل صباح .
وما بين ازدحام الأفكار واختلاط المشاعر، لمحت شيئاً من البهجة يعوم بها قلب المدينة النابض ، أطفالا يلهون ويلعبون، يسرحون ويمرحون ، يستقبلون انسكاب يومهم بكثير من الأمل بانتظار مستقبل بهي ، ليغمر الفرح قلوبهم الصغيرة تلك المشرَّعة على الحياة . أشعر الآن بأن عالم الأطفال قريب جداً مني ، حيث البراءة والبساطة وكل تلك الحيوية .. تساءَلت ، إلى متى سيعاني أطفالنا الفقر وسوء المعاملة والإهمال ؟ لكن ، شيء ما في صدقهم وأصواتهم وضحكاتهم العالية نقل إلي شعور غامر بالسعادة ، ترى ما سر قدرتهم الهائلة على استخراج السعادة منا ؟ يا إلهي ما كل هذا الجمال ! والله إن صدقهم وبراءتهم كفيلة بأن تبكيك !
وحينما تدرك كل ذلك تأخذك الرهبة أمام هيبة القدس ، فتلامس حواسك رائحتها ، وتنمو وتكبر محبتها في عيونك ، ويسكنك الحب فيرافقك ويكون معك وبك ، فتنتشي في عالم آخر من القدسية والجمال بحضرة الأمل لمداواة جراح الخيبة ، فتعلو أمام جراحك وترتقي بكل ما مضى من هزائمك وخيباتك ، وتسمو عالياً لتتخطى الألم في عالم غامض من المشاعر المتراكمة حيث تسمع أسوارها تنادي وتفيض بوحاً من بعيد :
أيها الفلسطيني .. تعال وانزع غربتك الملطخة بآهاتٍ من الحياة، تأكد من نبضات مدينتك قبل أن تغادرها، فهي أيضا تتألم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلما طال غيابهم عنها ..
- صحيفة رأي اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق