أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts

******* أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts *******

السبت، 2 يناير 2021

الهروب الى الموت....... قصة: عبدالرحمن محمد سوريا



قاربت الساعة الثانية عشر ليلاً ودنت ساعة الرحيل، انتظار طويل خاله دهراً من الزمن؛ ونحن في تلك الخرابة الموبوءَة، بقايا بيت مهجور يعج بالحيوانات الميتة والقاذورات كان يوارينا عن أنظارِ البوليس التركي، ربما قذارة المكان وعُزلته والرائحةُ الكريهة كانت كفيلةً بإبقائهم بعيدين عنا، وإن صَدَقَ المهربون وتمكنوا من تأمين «البلم»؛ فإن علينا أن نجتاز نفقاً تحت الأرض بما يقارب المئتي متر ومسافةَ أكثرَ من كيلو مترٍ عبر الغابة الكثيفةِ والحفر والمَطبات لنصلَ إلى الساحل. فنمتطي البلم الملعون الذي طال انتظارنا له.
الكثيرون ممن وصلوا إلى تركيا قبلنا، وممن كان لهم اتصالات مسبقة هناك مع صغار مافياتها، أصبحوا من صغار السماسرة؛ وعملاء من الباطن للمافيات الكبيرة العالمية، حتى تشكلت أكبر شبكة للإتجار بالبشر باتَتْ تنافس مافيات المخدرات في العالم.
هكذا كانت إحدى الحالات؛ ودقائق من ذكرياتِها الموجعة من جملةِ ثلاث محاولاتٍ قام بها صديقي وهو يحاول الهجرة من روج آفا، وأحسست أن به نهماً وشوقاً ليروي لي تفاصيل مغامراته ومحاولاته الفاشلة تلك، وكلما روى لي جانباً وحدثاً منها… ظننته انتهى من حديثه، فأهم بالنهوض.. ويمسك من جديد بيدي ويقول.. لدي الكثير اسمع هذه؛ ويسرد تفاصيل جديدة ويدفعني الفضول وحب المعرفة للبقاء مَعه وسماعه.
«كان لا بد لي من تنظيم آلية لخروجنا أنا وعائلتي، وخشيت من أن نغامر معاً في رحلة واحدة، ولأن قبول النساء والأطفال وإمكانية استقبالهم كانت أيسر، لم أجد بداً من البقاء في تركيا وتأمين مكان لعائلتي في البلم المغادر نحو شواطئ اليونان.
وللبلم والسفر بواسطته شروط واحتياجات ضرورية عدة لا بد منها، أولها أن قائد البلم يكون غريباً حتى لا يفكر بالعودة، أو الهرب فيكلف أحد المهاجرين بقيادته، وهناك أحجام منه حسب سعة البلم من 15 إلى 50 شخصاً، رغم أنه في معظم الأوقات يحمل فوق طاقته، ولا بد لقائد البلم من التزود بمنفاخ يدوي وسكين حتى يثقب به البلم عند الوصول إلى الشاطئ حتى لا يعيدهم خفر السواحل من حيث أتوا، بالإضافة إلى ارتداء ستر النجاة والتزود بعبوات الكولا البلاستيكية الفارغة التي تستعمل كسترة نجاة للأطفال بربطها إلى أجسامهم، حتى لا يغرقوا عند حدوث طارئ، بالإضافة إلى أوعية بلاستيكية من أحجام 25 ليتراً وما فوق ليتم استخدامها كطوق نجاة في حالة الطوارئ، ويحذر من وضع أية أغراض على قاع البلم أو الصعود إليه إلا حافياً حتى لا تتمزق أرضيته.
معظم البلمات والقوارب تغادرُ الساحل بعد منتصفِ الليل، وفي حالتنا غادر الجميع المخبأ في الثانية عشر وودعت زوجتي وابنتي وولدَيَّ ولم أستطع مرافقتهم إلى مكان القارب وعلمت فيما بعد أن ابني هو من قاد البلم إلى سواحل اليونان وأعطبه عند الوصول، وأن متعاونين مع سمسارتنا في تركيا أخذوا منهم ستر النجاة بعد وصولهم لتمنح لأشخاص آخرين، وعَلمت أن طفلاً سقط في الماء ولم يستطع والداه إنقاذه لأن من كانوا برفقتهم رفضوا التوقف خشية إلقاء القبض عليهم أو الغرق».
أهو ضرب من الجنون، أم شيء ما يشبه الوباء، أم أن تسميتي لهذه الظاهرة بـ «أنفلونزا الهجرة» هي الأصدق؟ ما الذي كان يدفع صاحبي إلى كل تلك المخاطرة والهجرة والمجازفة بالمال والروح، في سبيل الخروج من مدينته ومفارقة أهله وخلانه، لو لم أكن أعرفه حق المعرفة ربما لالتمستُ له بعض الأعذار لكني أعلم أنه يملك أكثر من محل تجاري وأن له اسمه المعروف بين تجار البلد، وله الصيت ذاته في الحي والمدينة، وهو متزوج ولديه بنت وولد.
مع كأسِ الشاي الثانية التي سَكبَها لي، أمسك بذراعي وأردف وقد أعادني من غفلتي عَنهُ وتفكري في إيجاد سبب مقنع لمحاولاته الهروب إلى الموت:
«في محاولتي الثانية أشار علينا المهربون أن نمتطي القطار، وللسفر بالقطار شؤون وشجون، فبيننا وبين محطة القطار الذي يعبر من تركيا إلى صوفيا غابة تمتد لثلاثة كيلو مترات تعج بالدوريات، ولا بد من قطعها زحفاً أو في وضعية القرفصاء في أحسن الأحوال، وبعد ساعات وصلنا المحطة؛ وهنا كانت المساوَمة وبالتفاصيل، فالنقل يكون عبر عربة المُحرك فقط وذلك بالاختباء في «رأس القطار» والأجرة 500 يورو إلى محطة «ترلي» في الجانب البلغاري و»1000» يورو إلى العاصمة صوفيا، وبعد انتظارنا لأربع ساعات ونصف في غرفة المحرك انطلق القطار، وبعد ربعِ ساعةٍ من انطلاقه وبعد عبوره للحدود ألقى بنا المهربون في مكان منعزل لتلقي علينا الدوريات وحرس الحدود القبض، وكانت ليلةً لن ننسى تفاصيلها ما حيينا».
مسح بيده على وجهه، ومع زفرة أطلقها لمعت عيناه، وتمتم بعبارته المحبوبة «أري براكو» وأضاف: «من يود العبور عن طريق البر واجتياز الحدود لا بد له من لوازم هي بمثابة المخلص والمنقذ، ومنها الكولونيا مثلاً ومشروب الطاقة والتمر، وأما الكولونيا فلكي تمحو أثر الرائحة كي لا تتمكن الكلاب البوليسية من تقفي الأثر وتزيل رائحة المتسللين، وأما مشروبات الطاقة فهي تمد المرء بالطاقة والماء وتحفزه على الحركة وتبقيه نشطأً، والتمر معروف أنه غذاء كامل من حيث احتوائه على عناصر غذائية كاملة، ويمكن لكمية قليلة منه أن تغني عن كميات من الطعام». وبآهة أحسستها تُخرج من جوفه بعضاً من النار تابع محدثي الهارب إلى الموت: «ما هزني تلك الليلة أن سيارة أوقفتنا فور نزولنا من القطار، كان بها ضابط؛ أوقفنا ومن ثم شهر سلاحه في وجهنا وطلب منا أن نجمع كل ما معنا من مصوغات ونقود وجوالات، ووضعها في سيارته، وأخذ يكيل لنا الشتائم مصحوبة بعدد من الركلات واللكمات كانت تصيب من كان بقربه، ثم اتصل بإحدى الدوريات وفوراً وصلت المكان لتكمل سلب ما تبقى من أمتعة وأموال خبأناها، وكان من ضمن مجموعتنا أم وابنتها البالغة من العمر أربعة عشر عاماً، كانت أشدنا ارتباكاً ، وبدأ أعضاء الدورية بالتحرش بها، تم تعرية الجميع من ملابسهم، وامتدت أياديهم إلى جسد الفتاة الغض؛ وهي تبكي وتتوسل إليهم، صفعة قوية من أحدهم كانت كفيلة بإسكات صراخ الأم وهي تراهم يعتدون على ابنتها، رغم أنها عرضت عليهم أن يفعلوا ما يشاؤون بها وتعطيهم كل ما معها لترك ابنتها وشأنها، كان التفتيش دقيقاً وباستخدام أضواء كاشفة كانوا يدققون في كل منطقة من أجسادنا، أمور مقرفة ومقززة شاهدتها ليلتها، ثم حملونا في سيارتي –زيل- وألقوا بنا على الحدود، وتمكَّنا من التخلُّص من حراس الحدود وكنت قد خبأت ما معي من النقود في ثنايا البنطال حيث يوضع الحزام، وحصلت في اليوم التالي على جوال جديد وكانت المكالمة الأولى من نصيب السيدة أم الفتاة التي اتصلت بزوجها في ألمانيا وخاطبته بكلمة مختصرة «أنا عائدة إلى أهلي ومدينتي مع ابنتك التي اغتصبها حراس الحدود، أرجو ألا تتأخر في إرسال ورقة طلاقي».
أظنك ألغيت فكرة السفر بعد ما لقيته من العذاب في رحلتك الفاشلة هذه إذاً؟ قلت مخاطباً صديقي.. وسرعان ما جاوبني : «بالعكس تماماً فقد جربت طريقة أخرى؛ السفر كان لا بد منه وبات بقائي في تركيا والسفر أمران أحلاهما مر».
هز أبو صالح رأسه عدة مرات، ورنا إلي من جديد بنظرة حانية وأردف: «أرشدني البعض بعد تلك المحاولة الفاشلة إلى السفر بطرق أخرى لا تخطر على بال ومنها السفر بسيارات نقل الرمل، حيث يتم تزويد الشخص بأنبوب مرن للتنفس ويطمر في الرمل بكامل جسده بعد أن يتناول بعضاً من كبسولات التغذية ويأخذ تحاميل الطاقة، لأن الرحلة قد تطول ليومٍ كاملٍ وقد تمتد لثلاثة أيام، وكانت هناك طريقة أخرى هي السفر بين الشياه بالسيارات المعدة لذلك وفيه أيضاً يزود المسافر بكبسولات التغذية وتحاميل الطاقة إضافة لرداء مصنوع من جلود الشياه يتغطى به كي لا يميزه أحد عنهم، وعليه وقتئذ تحمل نطح تلك الأغنام ومشاكساتها وعثرات الطريق، ولخوفي من نطحة طائشة رفضت الفكرة، وكان علي وقتها أن أدخل تلك البلاد ككبش يطلب اللجوء السياسي».
حك أبو صالح رأسه وهو يتكلم عن السفر مع الكباش؛ وكأنه تحسس قرنيه أو توجس أن قروناً ستنبت له، وأضحكتني عبارته «كبش لاجئ» وقال: «كانت الفكرة الأخيرة أن أسافر بإحدى طريقتين إما السفر في سيارات شحن البرادات، أو السفر في أسفل سيارة شحن، أرأيت؛ وجدت أنني إن رُمت الخلاص فإن علي أن أتحول إلى كبش أو عجلة احتياطية أو براداً، المهم ألا أكون إنساناً، إنها سخرية العصر».
وتابع صديقي: «أما السفر في سيارة شَحنِ البرادات فهو تركُ مكان براد أو برادين في وسط السيارة فارغاً، لتكون ملاذاً لشخص أو شخصين أو أكثر، ويُزودونَ بصفيحة فارغة تستخدم كمرحاض ويكون برفقتهم ماء ومشروب طاقة وتمر، وأما السفر في أسفل شاحنة ترانزيت وذلك يكون بالاستلقاء على لوح خشبي يصل بين محوري عجلات الشاحنة وقد يربط المرء حتى لا يقع إذا نام لأن الرحلة قد تطول لساعات طويلة وأيام، واخترت السفر كـ براد وحجزت مكاني في سيارة شحن، أخذت كفايتي من التمر ومشروب الطاقة وبرفقتي الصفيحة المرحاض، وبعد ساعات من سير الشاحنة نحو الحدود توقفت بنا قبيل وصولها للحدود للراحة؛ و إلى أن يحين دورها في العبور، لم يسمح لي السائق بمغادرة مكاني لأستريح لبعض الوقت، وبقيت أسير مكان لا يتجاوز مساحة ثلاثة أرباع متر مربع، قضيت ما تبقى من ليلتي بين صحو ونوم، وفي ساعات الصباح الأولى تحركنا صوب بوابة الحدود وعبرناها بسلام، وخيل إلي أنني نجحت هذه المرة. لكن؛ فرحتي لم تدم سوى ربع ساعة فقط بعد دخولي أراضي بلغاريا؛ حيث أوقفت دورية لحرس الحدود الشاحنة؛ وفوراً صعد أحدهم أعلى السيارة بعد أن أزال مع صحبه الغطاء عن البرادات، وإذا به يطل علي من فوق وأومأ إلي بالنهوض مخاطباً أصدقاءه بظفره العظيم وتمتم بالعربية «جربوع»، وتسلقت ما حولي كجربوع وخرجت لهم، وكان الاحتفال بي عظيماً بعد تخليصي من جوالي وساعتي وتلقيت نصيبي من الركلات والصفعات وبعض الشتائم بلغة ركيكة وبترجمات عدة، ثم ألحقوني بمجموعة ممن سبق وألقي القبض عليهم، وتم شحننا من جديد باتجاه تركيا، أدركت حينها العلاقة الوثيقة التي تربط تلك الشبكات مع حراس الحدود والبوليس والمهربين ومافيات البشر.
وما أن وصلت الأراضي التركية حتى طلبت من السائق إنزالي في أول خلوة طريق، فتحت ثنية الحزام في بنطالي، حيث كنت أخبئ نقودي ونقدته مئة دولار، فأنزلني مع اثنين آخرين، لنبحث من جديد عن فرصة أخرى لنهرب فيها إلى الموت».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

الوجع ‏Diya Raman

سألت الدهر : متى ستمر سحابة الألم ؟ و متى ستمد يدك و تنقذني من الغرق من بحر الأوجاع ؟ أيها الليل كم أنت طويل !. مثل حقل شوك أمشي حافية في در...

المشاركات الاكثر قراءة