فريدون الشاعر يتميز بلا شك بالمرونة، وهو أكثر تفهماً من مجايليه ذلك لأن الفكر الفلسفي الاجتماعي –بالذات- أهم ما يميزه ويتوفر لديه من معنى لتطور لغته وذوقه ومشاعره وصوره الشعرية وبقدر ما تتضمن رؤياه من عناصر التركيب والتعقيد تتضمن ايضاً عنصر الحرية والمغامرة المتمردة على اشكال معروفة أحياناً:
(... التحققت بقافلة الملائكة المتلفحات
بالاردية البيضاء
ووطأت بقدميك
مروج العشق المبارك وشربت من مياه الخالدين)
وبالرغم من (بعض الاطلاق) أحياناً الا ان حداثويته تجيز له رؤية جديدة للحياة بشموليتها الثقافية تبعده عن التبسيط معتمدة التركيب والتعقيد القريب جداً من الحقيقة وهذا يقيناً مبررها المعقول:
(... في مملكته
التي تعرض فيها الاف اللوحات
الحزبية للانجم الزهر اللامعة
ففي هذه المملكة لا تجد أبداً جاسوساً يكتب التقارير
او مسجلة سرية
تدون الاسرار والاخبار
ولا حماة القانون فيها
مسلحون بالبنادق والسيوف)
الا انه يتميز بحس آخر يجيز له ان ينصف تفسير الاحداث والوقائع والظواهر التي تحيطه وما تؤثر فيه فهو لا يتسرع باحكام تقوم على انطباعات شخصية عفوية.. او كتلك التي من شأنها الحرص على الشرح والتدليل دون القدرة على تحمل هذا الغنى الهائل الذي تتميز به.
حياتنا الراهنة سواء تبدي هذا الغنى في شكل مركب منظم او تبدي في العبث واللا معقول:
(لا يأخذك الحزن من سفرتك هذه
لأنها سفرة الانتصار
سفرة الخالدين
فالتاريخ نفسه اصبح
فريسة ضحية خيال
الاكذوبات الصارخة واسواط السلاطين
والتاريخ نفسه خجل من وجوده
امام اللوحة التراجيدية
لـ(حلبجة) الجلادين) ص14
وهكذا فان مجموعة الصور المعبرة عن الآراء والأحداث المنتقاة في مجمل قصائد ديوان: (أمتلئ عشقاً منك) يمكن ان ترسم خطوطاً عريضة لشخصيته الشعرية المتفردة وما دمنا في صدد التخصيص المحدد البعيد عن تعداد الهفوات التي تميز أحياناً أخطاء (الشعراء المؤرخين) والتي من شأنها ان تجنبهم في المستقبل بالخوض في عوالمها ثانية فهي بشكل عام بسيطة تتحدد أحياناً بمفهوم السذاجة الفنية اما ما يتعلق في غالب قصائد (فريدون سامان) ومهاراته الشعرية فانها تسمو وتتمدد بعيداً في طليعة تناولها للموضوعات والصور والمعالجات الابداعية.. وتبقى تعبيراً صادقاً عما يؤثر فيه، فهي لا تلوح بأي سلطة أيديولوجية أو أحكام مذهبية جاهزة ولا تعابير محمية بل تؤكد على ذوق يميزه الخجل وأحساس جميل مشوب بالفن ومقدار عظيم من الجمالية التي تعرض نفسها بشكل سلسلة انطباعات ذاتية تفضل بعقلانية فلسفتها الفكر على الفن وبالعكس اي تنتقل بين السيادة القلبية والعقلية: (... فانت لست وحيداً
ها هو (زرادشت)
وها هو (عيسى)
وها هو (الحلاج)
فاسأل الخنجر والصليب
والمحرقة
واسأل الدماء والاكفان
والرماد والكتب المحروقة
فانت لم تكن وحيداً في هذه السفرة
ايها الخصلة المتدلية الرائعة
والقزحية الشامخة
على جبين وطنك الذي لا هوية له
سفرة سعيدة يا رفيقي..) ص 15
وما عدا ذلك فان صوره الاخرى تفرد جناحيها في الغالب الى الشكل الذي يعتمد الصور اللا شعورية والعبث المشحون بالتضاد وبالتناغم السريالي المؤثر والفعال في صياغته على المشاعر والحواس ولهذا فان قصائده في: (أمتلئ عشقاً منك) تعطي المكانة الاولى للموهبة وللفن في تجريبيته الطليعية صورة ومحتوى:
(.. اما انا
فقد تجمدت عيوني في مقلها
وتوقفت يداي عن الحركة
وساقاي مشلولتان
توقفتا عن السير
جسدي محطم متهرئ لا حراك فيه
في معمعة اتون موقد نار الندم
ظلي يتجسس على قامتي
صوتي على لساني
لوني على جلدي...
فؤادي كهف تستظل به
الاف الاشواق والامنيات
وحنجرتي دوي عشق لم يكتمل بعد) ص22
ان الكتابة عن النتاجات الشعرية الابداعية بشكل عام تهدف الى ربط المظاهر المختلفة والمتتابعة للانتاج الشعري الابداعي بالذات ليس بهدف الانفعالات الجمالية بل والمدلول الاخلاقي للمؤلف الشاعر نفسه، وتردده ومخاوفه والطابع الشخصي الذي يميزه:
(بيتي في جزيرة الوهم
مأوى للأحلام والخرافات
والقمر في قصره الزجاجي المنيف
مستهدف لرماة الاحجار
ففي لحظات احتضاره
ينزع عن نفسه رداء الضوء
الذي يتلفع به
كاشفاً عن أسرار اغترابه
واشعة الشمس
تقطر دماً قانياً وقد
نفشت شعر رأسها
في مأتم الليالي السود).
ان تقطيع استمرارية الصور الشعرية وتضادها كما في: (بيتي في جزيرة الوهم) وفي قصيدة: (القمر في قصره الزجاجي) و(اشعة الشمس تقطر دماً) و..(نفشت شعر رأسها في مأتم الليالي السود)... فليس للوهم بيوت، ولا تقطر الشمس دماً ولا تنفش الشمس شعر رأسها، ولا لليالي مأتم.. الخ انما يبني الشاعر تراكماً نوعياً وكمياً للصور المتخيلة في لغة دلالاته غير المحدودة مفجراً أسلوبه باكثر من حرية وبأعمق معرفة:
(في ذلك الفضاء البعيد
نحتت نجمة خافتة حزينة
أروع قصر من أوراق الورود
المتساقطة
قزحية العيون الماسية لك
وترنو بنظرها نحو عاصمة عشقك)
وحين يسرح الشاعر في لا وعيه مع المتلقي وحين يجوب في عوالمه وهواجسه ومعالجاته انما يدعو الحب لنجدته.. (ويا ويلي عليه..):
(ايها العشق لتمتد يدك نحوي
حتى تنقذني...)
ان الاستطراد في غموضه ورموزه الشعرية تأتي ضرورة في تنوع موضوعاته، لذا يمكن القول بان أسرار جودة قصائد (فريدون) تكمن ايضاً في صعوبة الحكم عليها او نقدها بالعقل وانما بالقلب ايضاً، لانها حين تنطلق من نفس الشاعر انما تتوجه (صاروخياً) وبلا سابق استئذان الى نفس المتلقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق