أنا الآن مجرد جثة زرقاء هامدة، ممدة على لوح من شجن، أجمع شظايا تلك اللحظة التي بدت أبدية مثل خلود مرجى، أشياء كالصخر تؤجج آراب الذاكرة، وتعبر من خلف الرأس، من الحنجرة تنفلت أصوات خافتة كالحشرجة، محرار زجاجي يؤلم أخدود الإبط ، أجهزة طبية تلف ذراعي اليمنى و تضغطها، وجوه بيضاء كالورق، أطياف ممرضات تبدو في وزراتها كدماء موتى، رائحة كالفينك، نسائم خريف، دجنة ليل راكد جامد، راهب وصامت مثل غدير القفر، أسمع صدى رأسي يرتطم بالرصيف ويتشهم ، آلام أحراق، جراح في الذاكرة لا تنذمل، منديل غمام يلفني، جناح ظلام يطويني، مشاعر مضطربة تتلون في صور، إبر تستل العروق أنبوب أكسجين يخترق الحلق حتى يكلد يتلع اللسان. يد باردة تتسلل إلى صدري وتلامس جهة القلب المرتجف، أصوات لا تصلني واضحة، أسئلة كثيرة مربكة تزعجني بسخف وتعمق الدجنة:
- كم جرعة أخذت من محلول المنوم؟
- ...لا...أتذكر؟
الكلمات تخرج من فمي مقبرة خرساء، هادئة وشاسعة أحببت أن أذفن فيها لوحدي صحبة سنونوات فقط وعصافير النوري والنوراس التي أحبت أن تلفظ أنفاسها قربي، كنت أعلم أني أطير، أصفق بجناحين فوق هامات الرمل، والماء والشجر كطائر جبل نثرت قلبه سهام ليل .
استطعت وأنا جثة ترمق الفراغ بطرف فاغر أن أميز طيف (حامد) يذهب ويجيء بين سريري والمقعد المقابل ويتنقل بين الغرف، الطبيب يغرق الصغيرة (زهور) بدفقة أسئلة:
- هل كانت ماما مريضة؟
- ويسأل (حامد) لم . لم تحملها إلى مستعجلات المصحة على التو؟
- هل قالت شيئا قبل أن تنام ؟ ألم تسمع ولا حشرجة واحدة؟
(حامد) الذي لم يسع حزنه مكان يسألني وكأنه يلومني على جرم افتراقه .
- ما بك ؟
كنت خجلى من حالي الواهن ومقتنعة أنه لن يرضي (حامد) وهو من ألف رؤيتي معتدة، جسورة، أجبت وكأني أتماثل لأقل شيئ من حياة.
- ما بي... لا شيء؟؟
- هل هي نوبة اكتئاب؟؟
- أسباب كثيرة ودفينة في الحياة داعية للاكتئاب ؟
قلت له هلكت الطفلة واضمحلت وجف فيها سحر الحياة، فارتأت تسأل ضمير الوجود ماهية النهاية فهل لأني أبحث عن سبيل لانهاء الحكاية أم لأني ألتقط حبات السبحة وأستعجل أريجها؟ ساعتها سألت نفسي لم اشتريت تذكرة النهاية قبل الأوان وشبحه يترصدني مرمى في فاه غمده.
لازلت الهج بكلمات مبهمة، أتلعثم، أبتلع ريقي بصعوبة كأني أعتذر لحامد عن موتي المؤقت، وألتمس أسبابا معقولة لبقائي حية، سافر (حامد) ولازال يمطرني عبر الهاتف بسيل أسئلة نافلة بصوته الأجش ونبرته الرزينة، أما أنا فكنت أواسي نفسي ببعض اعتبارات فلسفية حول القدر وحدود الموت والحياة وظاهرة التحلل الكونية لكن دونما اقتناع نهائي، (زهور) الوديعة وحدها لم اسمع صوتها ذاك الصباح ولكن وأنا أضمها الي بحنان أقوى و أنا أنتحب أخجلتني نظراتها إلي؟ فكيف تقبلت موتي؟ هل انغلقت حنجرتها بفعل الصدمة فخبأت دموعها الكثيرة ولاذت بالنظر والصمت؟ هل غادرتني قبل أن أغادرها ذات مساء ذاكن فيما كنت أنا أفرغ كل محتوى قنينة المنوم في معدتي دفعة واحدة، وأودعها بعدمية أضرمت النيران فيما بيننا ورمت به إلى ابعد قرار. ربما لم تحتمل النظر، إلى جثتي الملفوفة في خرقة بيضاء كنفاية عديمة، فهرعت على دماها تستجديها بعض الدفء وتبثها الشكوى.
قال لي (حامد) عبر الهاتف صباح الغد بعد أن علم من الطبيب فرادة وضعي الصحي المتقلب:
- دعي مشاعرك العمياء بالأحزان، ولوحي في الدنى بشائر صبوة.
- قلت له وانا متعبة ساخرة : سخافة هي الدنى وزورق حزن وظلمة لا تحد ، بودي لو أبددها وأمتطي مهرة تحملني بعيدا وترقص بي في النور والظلال.
- قال لي : تخطين أنت ضريحك في سكون الدجى وتقبرين نفسك باستعجال فلم لا تسيري مع الحياة؟؟.
تواريت خلف واحد من العدميين، نزعت كأس السم من يد (إما بوفاري) رشفت منه وحطمت الكأس لكنها عاندتني، وأدارت كأس السم ثانية نحوي؟ لا أدري لكن الأهم أنها احتضرت في كوابيس إغمائي ، جازفت ساعتها منشطرة بين هشاشتها كحقيقة ووهمها كتعيسة ناعمة في دفئ كذبة عاشق تأهب الرحيل في عز العناق، قدمت لها صفحي وتوسمتها طيفا تساقط في عيون بلادة وقت مطبق ، لكن جرأة الرؤية غافلتني. لم يكن لدي ما يكفي من قوة لأنزع من خاطر (حامد) أية لبانة شك. كنت لحظتها رجعا جذيبا يتحف الروح ويعاتبها في بركة غيب آسن على جنباته تحتفي أطلال وجود. أتذكر أني قلت له في نفسي بعبثية سوداء:
( علاه أنا يوم جيت للدنيا كان لي شوار)
كان العالم لا يزال ينعثم حولي، رأيتني أنآى بعيدا عن (زهور) التي تلتصق بي، وأحمل بين يدي رأسي المقطوع. صوت (حامد) ينبعث كرجع ينفذ من بئر عميقة، الدنيا غيمة في عيوني، وأنا أختفي وسط رماد، أغيب، أعود، كما كنت دوما وحيدة، ثم أختفي من جديد لم يعد كل شيء سوى ذكرى غائمة. وضعت يدي على سماعة الهاتف حتى لا يصل الى (حامد) صوتي الجريح ، كنت انتهيت ، لفظت أنفاسي حتى آخر رمق، صرت ورقة ممزقة في كتاب، ريشة رهيفة، كثلة عظام وعروق مثلجة ومنذورة للانتفاء.
لكن ...شيء ما ينبض بداخل دمي اليابس، شيء غامض، رهيب ، يشيع في الهواء كإحساس موجع بالفقد، يجوس الرؤى، يرفع اللحاف عني، أسمع نداءه رغم صممي، أشيح عني زفرة الموت لأجل خاطره، وأظل معلقة في الفضاء سحابة بيضاء.
بعد قليل أهوي الى أخدود في قعر الثرى حيث أخبو، وتفنى بسمة الجفن، وينهد الجسد، يربد الوجه، يغبر الفرع في جفن ظلمة فأصير هباء، وتربا زهيدا، وحرفا أجوف في الشفاه، بعدها أكون مجرد كائنة كانت تسكن في شواطئ من ضباب ، عبرت الحياة بين خريف ومطر، ثم غابت ذات غسق تاركة خلفها ألبوم صور، وحروفا مبعثرة، وأوراقا شخصية مجهولة، وذكرى مساء ثلاثاء أسود، ثقيل، وأغبر.
لكن ذاك الشيء المبهم كالغصة يقض ضريحي الذي زخرفت؟ هل هو طيف (زهور) الصغيرة يبرعم في الدم اليابس ويخترع ندى الصباحات ، ليجعلني أرى ابتدائي في نهايتي؟؟.
أنا الآن مجرد أغنية منسيةسائمة في شهاب ليل، لكن ألامس يدين صغيرتين مفعمتين برحيق حياة تحضنان وجنتي الزرقاوين، فيورق نسغ الدم في عروقي حيث كنت لازلت ممدة على لوح الشجن، أراني أرى في مدى السراب ظل (زهور) يركض حولي ويهتف بي:
- أنا المغنى يطوي ندى السأم، أنا استماتة السنابل في وجه الريح، أنا سلال الربيع، وريحانة رفش الضريح، أنا ناي يباب الرمل، والمدد ينحت أماسي السماء.
تهاويم الإغماء تعاود الفتك بي، لكن،...الصوت الغض، الغامر يجتاح غمضي، أرنو اللحظة على حطامي الأعمى تحت وقعه كنوري بلله القطر ينتفض، ضارعا يجثو في بيذره الوليد، يمد ناصيتي له يدا من وجل، يستجديه قميص بشرى وزعتها(زهور) جداول ماء تهدر في أرجاء جثتي، أحسها استحالت طائرا أبيض يحط قناع الموت عن مفرق نعشي، يخلع على بردة مسائي الأخير نجم الآلاق، يدفن غراب فنائي الرديم تحت إبط البقاء، وينبتني بذرة خضراء في مجرات الرغبة.
أنفاس (زهور) تخترقني متصلة وهي تلهث وتمد جذيلتها مجدافا لجنان فجر أبلج يزج بهوادج مصرعي، ينفض عن جثماني دماء الشفق، يكفر جزري من وشم الخطيئة، ثم يرمي على وجهي بزهرة ماء واجدة.
هي ذاتها (زهور)، ألمحها الآن عن كثب، وأنا متوجة بآجام الخدر، تأخذ بمرفقي، تدخلني بهو بصيرة، ترقص بلهب في خطى أحرفي، تطرز أشواق صحوي، تفك عني مسامير لوح الشجن ، تحرق كفني في مجمرة بدء، تبرم عويلها فتائل عزم، تنفخ دم الوهج في شفة النحيب، ثم تبدد آخر ما تبقى على كتفي من رماد عدم خلاسي كان يحتسيني منتشيا صرخة في كهف ظنــــــــــــــه.
لغة متفردة بالإبداع، هكذا يحتفي المتلقي بجمال الحرف والكلمة، الأستاذة الأديبة والمترجمة ليلى الدردوري..
ردحذف