إعداد الكاتبة والشاعرة السورية المغتربة : فيروز مخول
بدا النقد الأدبي في ملامحه الأولى في العصر الجاهلي على شكل ملاحظات عامة تُطلق كأحكام نقدية على النصوص الأدبية تبعًا لطبيعة الذائقة الشخصية للناقد، وعليه فقد اختلفت هذه الأحكام وتفاوتت بين ناقد وآخر للنصّ الواحد، كما كانت أحكامهم تستند إلى جزئيّة مُعيّنة من النص الأدبي في حين يتخذها الناقد كحكم عام يقوم بإطلاقه على النص المعني عامته،
ويتضح في هذا الحكم النقدي سطوة الذائقية النقدية حيث لا أسس يستند عليها الناقد ولا مبادئ علمية تُفسّر سبب هذا الحكم، كما أنّ الشعراء كانوا يتلقون تلك الاحكام النقدية دون مراجعتها ومتابعتها وكأنّهم يدركون بالفعل مردّها لحكم الذوق الشخصي. لقد ساد طابع الذوق على الحكم النقدي طوال العصر الجاهلي وما تبعه من عصر صدر الإسلام وحتى نهاية العصر الأموي، وفي العصر العباسي أخذت العملية النقدية تتطور وترتقي حتى أصبحت علمًا مستقلًا بذاته لا ينفصل عن الأدب بحال من الأحوال، فقد بدأت تتشكّل الملاحظات النقدية ضمن أسُس علمية ومبادئ معروفة، وأخذ النقاد يبنون ملاحظاتهم النقدية تبعًا لأسس منهجية ومبادئ علمية تستند في معظمها لحكم الذوق العام لأهل اللغة والأدب، ولذلك فقد ظهرت العديد من القضايا النقدية التي شكلت جدلًا عميقًا في ذلك العصر،
١- قضية اللفظ والمعنى :
خلقت خصومة وجدلًا واسعًا بين النقاد آنذاك، حيث عمدوا للفصل بين اللفظ والمعنى في حكمهم على القصيدة وتقييمها،ولعلّ من أبرز هؤلاء النقاد ابن قتيبة،
قد قسّم النقاد بين من يميل لسبك اللفظ والعناية وتحسينه لكونه القالب الذي تصب فيه المعاني، ولعلّ من أبرز النقاد الذين عرفوا باهتمامهم بالصياغة واللفظ ( الجاحظ)
مِن النقاد مَن رجّح كفة المعنى على اللفظ من منطلق يقتضي بأهمية اقتحام المعاني العميقة والمضامين الجديدة التي لم يسبق إليها أحد، ويأخذون على أولئك الشعراء الذين يقضون على الفكرة التي تعد أساس النصوص الأدبية مقابل اهتمامهم المبالغ فيه بالصياغة والتشكيل اللغوي، حيث يعد أصحاب هذه النظرية اللفظ مجرد قالب أو أداة تستخدم لنقل المعنى.
على الرغم من أنّ قضية الفصل بين اللفظ والمعنى قد شكّلت معركة عنيفة بين النقاد، إلا أنّها سرعان ما هدأت وبرد وطيسها على يدي عبد القاهر الجرجاني الذي دعا للوحدة العضوية بين اللفظ والمعنى من خلال نظرية النظم التي يقصد بها تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض. لعلّ عبد القاهر الجرجاني قد استمدّ نظريته من الجاحظ الذي قال بإتلاف الكلم بين اللفظ والمعنى وانسجامهما لتحقيق عمل أدبي متقن، فهو يرى بأنّ الجاحظ قد فهم خطأ بسبب قوله إنّ المعاني مطروحة في الطريق،
٢-قضية الصدق والكذب،
كيف يكون أعذب الشعر أكذبه؟
من أبز قضايا المعنى التي أولاها النقاد اهتمامهم وعنايتهم، إذ احتدم الخلاف بين النقاد وانقسموا إلى فريقين في هذه القضية بين داعية للصدق في الشعر بأنواعه وبين محبذ للكذب الشعري، ولعلّ هذه القضية كانت تنبع من خلاف النقاد في تحديد مفاهيم الصدق والكذب المعنية في الشعر ،
نظر مؤيّدو الصدق الشعري من النقاد والشعراء إلى الصدق من جانب مطابقته للواقع الحسي والنفسي، فالشعر الذي يُطابق الحقائق العامة والمنطق الإنساني، بالإضافة إلى إخلاصه في التعبير عن المشاعر تجاه أمر أو حدث ما دون تكلف أو تصنع يعد شعرًا صادقًا، كما دعا أصحاب هذا الاتجاه إلى الشعر الهادف، فالشعر الصادق هو الشعر الذي يتبنى الغاية ويدعو للفضيلة ومحاسن الخلق.
فقد فضّل شعر زهير بن أبي سلمى كونه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، كذلك الشاعر الجاهلي عدي بن زيد التميمي الذي أخذ يدعو إلى انتهاج الصدق في الكلام والامتناع عن الكذب بقوله:
وبالصّدقِ فانْطَلق إنْ نَطَقتَ وَلا تَلُمِ
وَذَا الذم فَاذْمِمهُ وَذُو الحَمْدِ فاحْمدِ
وعلى الضفة الأخرى يقف أنصار الكذب في الشعر محاولين تخليصه من قيود الواقع والمنطق العلمي الذي ينتزع من شاعريته التي خلق لأجلها، فهم يرون أنّ الشعر قد نسج ليُحلّق بعيدًا عن قيود الواقع فيجنح بقائله بالخيال ويخلق من خلاله عالمًا موازيًا للعالم الحقيقي تمتثل فيه الآمال والأحلام التي استعصت على التحقيق، وبذلك فإنّ أنصار هذا الفريق يقصدون بالكذب الشعري الخيال والتصوير الذي يمنح الشعر جماله الفني ويفرده عن العلم والمنطق والتاريخ الذي يتطلب الواقعية والمصداقية.
يخرج من دائرة الكذب الشعري الكذب المتكلف به الذي ساق الكثر من الشعراء إلى التكسب والتبجح بالكلام حتى امتهن الشهر امتهانًا.
لم يكن هؤلاء الشعراء يقصدون بالكذب النوع الخلقي منه، إنما أرادوا به الإبداع والاختلاق الفني واتباع كافة الوسائل التي تدعم الجماليات الشعرية التي تترك أثرها في نفس المتلقي ،ولعلّ من أبرز الأبيات التي تضمّنت الكذب الفني الذي يحث عليه أنصار الكذب الشعري وصفالمتنبي لشدة نحوله حيث يقول:
كَفى بِجِسمي نُحولًا أَنَّني رَجُلٌ
لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني
............................................... يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق