عاش المفكّر والفيلسوف والأديب أبو حيّان التّوحيدي في القرن الهجريّ الرّابع الّذي شهد اتّساعاً في الفكر ، ورقيّاً في العقل ، ونضجاً في العلم ، فكان – بحقّ – علماّ من أعلام الحركة الفلسفيّة الأدبيّة ، وقد لقّب بأديب الفلاسفة ، وفيلسوف الأدباء ، لأنّه استطاع أن يمثّل الثّقافتين : العربيّة السّائدة ، واليونانيّة الوافدة ، لكنّ مشكلات الرّزق والمعاش أرّقتهُ ، وأقضّت مضجعهُ مشاغل الحياة ، وأقلقت باله قسوةُ المجتمع ، فثار على المفاسد الأخلاقيّة ، والقيم السّلبيّة ، والذّمم الفاسدة .
وكان المفكّر هذا ميّالاً إلى التّنقّل ، ومولعاً بالأسفار الّتي كان معظمها موزّعاً بين طلب العلم ، والبحث عن الرّزق ، وكان العلم والمال عنده كضرّتين قلّما يجتمعان ويصطلحان . يقول في كتابه ( الإمتاع والمؤانسة ) : ".. فالعلم نفسي ، والمال جسدي ، والعلم أكثر خصوصيّة بالإنسان من المال "
وكان – رحمه الله – رجلاً صوفيّاً ، مؤمناً ، عالماً أنّ الله سبحانه :
" أملك لنواصينا ، وأطلع على أدانينا وأقاصينا ، له الخلق والأمر ، وبيده الكسر والجبر ، وعلينا الصّمت والصّبر ، إلى أن يوارينا الّلحد والقبر .." .
وليعلم من لا يعلم أنّ الفكر عابر، والمفكّر عابر، وكلاهما مع رياح الموت طائر..!
وقد تبدّدت آمال التّوحيدي في أصيل العمر ، وانكشفت له تفاهة الحياة الدّنيا ، وبطلان لذّاتها وآلامها ، الأمر الّذي حدا به إلى إحراق كتبه العزيزة الّتي طالما شاركته حلو الحياة ومرّها ، وذلك لشعوره بقلّة جدواها .
وبعد ، فقد كان أبو حيّان مخلصاً في فعلته إلى أبعد حدود الإخلاص ، وقد يئس من جميع خلق الله ، لكنّه بقي متعلّقاً بحبل الله ، قائلاً لأصحابه حين احتضاره :
" كأنّي أقدم على جندي أو شرطي ، إنّما أقدم على ربّ غفور ، وقضى ..! " .
والظّاهر أنّ الكتابة حرفة الفقر ، لأنّ فيها ، كما يقول أبو حيّان التّوحيدي ، ضياع العمر والبصر ..!. فهل الصّمت أبلغ من كلّ كلامٍ ؟!!.
استنبول في 27-11-2017 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق