(ذكريات ١ )
بَعد إنتهاء مَرحله الدِراسه الجامعيه فى الثَمانينات ، إتفقت أنا ومحمود وحمدى زُملائى من أيام الدراسه ، ومن خارج بلدتى أن كُلاً مِنا يشترى جريدة يومياً ، ويبحث عن الوظائف الخاليه ، ومن يَحصُل منا على إعلان يُبلغ الباقى ، فَكُنت أشترى (جريدة الأهرام ) ومحمود (جريدة الأخبار ) وحمدى ( جريدة الجمهوريه ) وبعد مُدة ، وجدت حمدى أتى إلى بلدتى مُتَأبّطاً جريدة الجمهوريه ، ويقول لى إقرأ هذا الإعلان ، فلقد ذهبت إلى محمود وأبلغته ثم أتيت إليك ، وسنذهب غداً إلى ( مدينة طنطا ) للتقديم فقرأت الإعلان وجدت مطلوب مندوبين مبيعات لإحدى الشركات !!! . فقلت له ما هذا ياعم ؟ أنا بقرأ مثل هذا ولا أَهتم به مُطلقاً !! فقال لى يا أخى هو أنت عايز تِشّتغل ( بك ) ، تعالى غداً كى نَتقدم للوظيفه ، المُهم ذَهبنا إلى طنطا ووجدنا أَعداد لا بَأس بها مُتقدمه لتلك الوظيفه ، والتى تقوم بعمل المُقَابلات الشَخصيه فَتاة تَكاد تَكبُرنا فى العُمر بقليل حينئذٍ ، وهى عَلىَ قَدرٍ كَبير من الشِياكه والجَمال واللَباقه ، ولقد إستغرقت مُقابلتى مَعها حوالى (١٠) دقائق ومحمود (١٥) دقيقه أما حمدى إستغرق نصف ساعة كاملةً ، وقالوا النتيجه بعد إنتهاء جميع المُقابلات ، فانتحينا بأحد الشوارع الجانبيه والقريبه من ميدان الساعه ، وَجلسنا على مقهى شعبى ، وكان محمود يتمتع بِخفة ظِلّ ، أما حمدى فهو طيب جداً وعلى فِطرّته شَكلاً ومضموناً ، وأنا أَمِيلُ إلى الجَد ، فقال محمود مُقابلة محمد عاطف لم تستغرق سوى (١٠) دقائق ويبدو أن البنت ( قَلَبّتهُ ) ومقابلتى (١٥) دقيقه فتقريباً عِندى أمل ، أما أنتَ يا حمدى نِصف ساعة كَاملةً ، أَكيد البنت أُعّجَبت بِكَ جداً ، ويبدوا أنها وقعت فى غَرّاَمكَ وهَامت بِكَ ، فاعتدل حمدى فى جِلّسَته مُنتشياً مُصدقاً بِكُل سذاجه مايقوله محمود ، ثُم ضحِكَ من كُل قلبه وقال .
والله يا جماعة الِبنت كانت كُلمَا تَسألُنى سؤال يأتينى إلهاماً ربانياً وأجاوب ، وأجد إِلهام سَريع بالإجابه مش عارف من أين يأتى ؟ . فَضحك محمود وقال له إلهام ربانى ولا ( إلهام شاهين ) فانفجرناَ مِن الضَحك وقُلنا تصدق إنها تُشبه ( الفنانه إلهام شاهين فعلاً ) . ثم قال محمود لحمدى إذهب أنتَ بقى شُوف النَتيجه ، لَكّن قبل ما تذهب عَليكَ بِتلميع حذاءك ، فنادى حمدى على ماسح الأحذيه من أمام المقهى ولمع الحذاء ، فقال له محمود إشترى أيضاً زُجَاجه عِطر وضَبط نَفسك علشان حتقابل إلهام ، وبالفعل قام حمدى مُصدقاً إياهُ واشترى زُجاجه عِطر من بَازار مجاورة للمقهى وبكل مامعه من نقود ، ثم أفرغ نِصف الزجاجه عَلى ملاَبسهُ ثم ذهب لإحضار النتيجه ، وبعد قليل رجع مُطأطئ رأسه ويقول يا محمد أنت ومحمود إسمكم موجود بالكشف ماعداَ إسمى ، فضحكنا ولم نُصدق ولكن قال والله العظيم بجد . فَقُلنا له لا عليك لن نذهب لهذاَ العمل وعموماً هو عَملّ مُؤقت وليس حكومى ، فقال محمود ياحمدى إنتَ مَكانك ليس هُنا إنت تسافر إنجلترا !! وإنصرفنا لمشاغل الحياة بِحُلوها ومَرّها ماعداَ اللهم من مُتابعه بالخِطَاَبات أنذاك ، وانقطعت الإتصالات من المشاغل ، ومرت السنين والسنين ، وإذا بمحمود يتصل بى منذ عدة أيام قليله ويقول لى أخبارك أيه يامحمد وعامل أيه ؟ على فكرة حمدى بيسلم عليك فقلت له حمدى مين ؟ فقال حمدى إنجلتراَ ، فبسرعه تذكرت وضحكت فقلت بجد ، فقال ياعَمناَ حمدى هُنا فى مصر ، وفى أجازة قصيرة من إنجلتراَ ، ولقد تزوج مِنْ هُناك ومعه الجِنسية وله ولد وبنت شباب ، وبقى صاحب مَطعم كبير !! وهو هُنا فى القاهرة ويُريد أن يَرّاكَ ، فحددنا مَوعد ، وتقابلنا وجلسناَ سَوياً نتذكر الماضى والذكريات ، ونضحك بكل ما أوتينا من قوة ، وإذا فى نهاية اللقاء محمود يقول لحمدى ، كيف ياحمدى صار لك كل تِلكَ المُدة هناك ، ولم تفكر بالترشح ل ( مجلس العموم البريطانى ) فَضّحكتُ على كلام محمود وأنه لم يتغير أسلوب المِزاح لديه ، وإذا بِحمدى يَصمت ولم يضحك ، بل ومصدقاً محمود ويقول إزاى الفكرة دى لم تخطر ببالى يا جماعة ؟!!! .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ذكريات ٢ )
أثناء الدراسه بالجامعه فى بداية الثَمانِينات كان ظُهور الجمَاعَات الإسلاميه المُتشددة مُنتشراً ، والحَرب على أشُدّها مابين الدوله وتلك التنظيمات ، وخصوصاً بالسنوات التى أعقبت مَقتل الرئيس السادات ، وكان هذا الظُهور بين الأوساط الطُلابيه بسبب وجود بعض مُروجيه فى الإتحادات والأُسّر الطُلابيه ، وحيث أننى لا أَميل لهذا الفِكر سواء شكلاً أو موضوعاً فكنت أنتمى ( لأُسّرة الشُموع ) ، والتى كانت تهتم بالندوات الشِعريه والقِصه القَصيرة والتمثيل المسرحى والكورال ، وكان صديقى ( محمود ) ليست له مِيول من تِلكْ ولكنه مُهتماً ومتابعاً لكرة القدم ، أما صديقى ( حمدى ) ليست له أى ميول أو إهتمامات من هذاَ أو ذاكَ ، وكان غالباً مايشكو من أنه مَطحُون لمساعدة والدهُ فى ( زراعة الحقل ) ، وليس لديه وقت لهذا الكلام الفارغ سواء الفنى أو الرياضى على حد زَعّمه ، وكان حينما يلتقى محمود بِخفه ظله المُفرطه ، وحمدى بطيبته المُفرطه أيضاً ماكنا نَفرُغ من الضَحك ...، وإذا بحمدى ذاتَ يومٍ يقول لنا ياجماعه أنا صليت الظُهر النهارده مع بتوع الجماعه الإسلاميه ، ووجدتهم عِيال طيبين ، ويتكلمون فى الدين والأحاديث وتفسير القرآن .
إنت رأيك أيه يامحمد ياعاطف فى هؤلاء ؟ فقلت له ياحمدى هؤلاء يُحرمون الحياة ( الغناء والموسيقى والفن والشِعر والرسم والنحت والتصوير الفُوتوغرافى ) كل هذا لديهم حرام وأنا أحب كل هذا ، وأيضاً أحب دينى وأعرفه تماماً ، فليس لى علاقه بهم .
ثم قال وما رأيك يا محمود ؟
فقال محمود بقولك أيه يا ( وله ) يا حمدى العيال دول ماذا قالوا لك ؟
فقال حمدى لقد جلست معهم و قاموا بِتَفسير قِصه (قابيل وهابيل ) ، وعرفت إن قابيل كان طماع وتزوج أُخته التى كانت ستتزوج هابيل ثم قام بقتل أخيه ، وترك جُثته فى العَراء حتى فَاحت رائحته ونتنت ، وربنا أرسل الغُراب علشان يعلمه كيف يَدفِن أخيه ، فقال له محمود يعنى أفهم من كِدا إنك إتعلمت كيف يدفن الإنسان أخيه الإنسان ؟ فرد حمدى طبعاً يا أخى بكل تأكيد ، فقال له محمود أنصحك ياحمدى تروح دلوقتى وتتجوز أختك وبعدين تقتل أخوك ثم تدفنه طالما إنهم علموك طريقة الدَفن ...
فاستندت إلى أقرب جدار من خَلفى لكى لا أقع من هيستريا الضحك التى إنتابتنى ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ذكريات ٣ )
مُنذُ ٣٥ عاماً تقريباً كُنتُ طالباً بالثانوية العامه فى مدرسة مُنشأة سلطان الثانوية وكُنا فى ( حِصة اللغة العربية ) وموضوع الدرس نصوص وبلاغه ، وقد كان الأستاذ / محمود البنا عليه رحمة الله أستاذ اللغة العربية يَشرح لناَ نصاً ، وكان يقوم بشرح النص وإظهار مَابِه من جَمَاليِات تَطابق وتَطاد وإستعارة مَكنيه ومُحسِنات بَديعيه .... وأذكر أنه كان يَشرح ثم أتى
على كلمة ( السُهاد ) فى النص ثم قال مامعنى السهاد ؟ لم يرفع أحداً فى الفصل يدة إلا أنا ، فقال إتفضل ياعاطف فقُلت السُهاد جمع كلمه ( السُهد ) وبِماَ أن ( الفنان عبد الحليم حافظ ) بيقول وأنا فى طَريق السهد وَحيد ، إذن معناها السَهر والأَرّقْ . فَضج الفصل كُله بالضَحِك وابتسم الأستاذ إبتسامه خفيفه ثم قال لى قِفْ وإفتح يَدّك ، وقام بِضَربى أربع عِصى حلوين !!
ثم إستأنف الشَرح قائلاً وكماَ قال زَميلكم ( السهد ) هو الأرق والسهر بالليل .
فرفعت أُصّبُعى فقال إتفضل ، فَقُلت حَضرتك ضَربتنى ، وأنا فكرت أن الإِجَابه خاطئه ، وحضرتك تستدل بكلامى الآن ؟ ! فقال لقد ضَربتك لخُروجك عن النص وكان يَكّفيك أن تُجيب دون أن تَستدل بالأغنيه والمُغنى فاعتذرت وجلست ، وبعد إنتهاء الحصه نادانى خارج الفصل وَرَّبَتَ على كَتفىِ ، وقال ذِكرُك للأُغنيه والمُغنى من السهل أن يفتح الباب لِتَضييع الحصه ، وتَهرِيج المُهرّجِين ، وأضاف فأنا أسمع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ..... كل ذلك تذكرته وأنا أسمع بسيارتى ذات الأُغنيه ( فى يوم فى شهر فى سنه ....... .... وأنا فى طريق السهد وحيد ) وبعد أن رَكّنتْ على جانب الرصيف ونزلت ، فَسمِعت صوت يأتى من ( توك توك ) صاحبه يُسمعُنا "حَتعورنىِ أعورك وأبوظ مَنظرك .. مَفِيش رَاجِل بَقى رَاجِل .. مَفيش صاحب بِيتصاحب " فَقُلت رَحِم الله الزمن الجميل الذى كُنا نَتَثّقف من خِلالِ أُغّنيَاته . فماذا نُسمى ذلك إذن ؟!
خُروج عن الذوق العام ؟
أم خُروج عن الأدب ؟
* محمد عاطف: كاتب وشاعر من مصر
كل الشكر والتقدير والإمتتنان لإدارة المجله الغراء ( ميزوبوتاميا ) دمتم للأدب والأدباء واحة مع خالص شكرى وتقديرى لسيد الواحه الأستاذ / عبد الوهاب بيراني مع تحياتى ، محمد عاطف كاتب وشاعر من مصر
ردحذفسرد جميل تحياتي استاذ عاطف
ردحذف