أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts

******* أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون Icon Mesopotamia for Literature and Arts *******

الاثنين، 26 أبريل 2021

نص من كتاب "حكايا عطر البراري " للكاتبة السورية ......مها ريا



في ركنٍ نضرٍ ، من ذاكرة الطفولة الدافئة ، تسكن أصوات باعة
جوالين ، يرتادون طرقات الأرياف، ينادون على بضائعهــم
المحمولة ،على ظــهور الحــمير، بطرق مختلفة ، تميز أحدهم
عـــن الأخر، فمنهم من ينادي بأغنية شعبية ،يبدل بين كلماتها
لتناسب نوع بضاعته ،التي يروج لها ،ومنهم من يرتجل شعراً
غزلياً محكياً، يستقطب فيه من النسوة من كنّ في مقتبل ذبولهــن
.وبسماع أصوات الباعة ،تجتمع النسوة والأطفال لشراء
احتياجاتهم من أقمشة ،تصرخ ألوانها قبل صراخ بائعها ،وعطور تسكن أبداً
ذاكرة الشم , وخشيش أساور ، يلتهم مجال السمع و.وو
في نافدتي المسكونة بالأحلام والوعود ، وقفت أتأمل قطعة من
القماش بيد إحداهن ،تدفعني صرخة الألوان، وبريقها الى امتلاكها
، ترددت قبل أن أطلب من أمي شراءها، لترد ببالي كل
الاحتمالات الممكنة ، وتمرح الألوان ...
ومن نافدتي أراها، تدغدغ لهفتي ، وتصطدم بجدار الممكــــــــن ،
وصهيل الألوان في الخارج ، يحرّض ما ضعف ،من شجاعتي
فطلبت.
كان والدي في الداخل ،يسمع ما يدور بيننا ، فخرج وسألني :
- بكم متر القماش؟.
- بليرة ،
فما كان منه إلا أدار ظهره ، ومضى يقول :غااااالي غاااالي ،
مضى أبي ،ومضى حلمي ، إلى ما قبل لهفة الألوان ،
انطوى في مكان عميق ،بعيد عن مساحة الذاكرة، حتى تلاشى.
صوت البائع، يعود ليوقظه من جديد، بعد أقل من شهر، هذه
المرة لم أخرج لرؤية القماش، بل بقيت بين كتبي ،علّها تشغلني
، عن شغف الألوان وغوايتها ، وتتوالى أصوات الباعة مراراً
وتكراراً، على مدار الأيام ،والأسابيع ، والأشهر، حتى لم أعد
اسمعها .
صوت أبي ، ينادي على البائع ، يستوقفه قبل ،أن يمضِي، ويسأله
عن السعر، ومع سؤاله ، تعاود الألوان صراخها ،وتدفعني إلى
النافذة من جديد ، يرد البائع :
- بليرتين .
تركت نافذتي ،ومضيت إلى سريري ،أدفن فيه ألواني الباهتة ،
صوت أبي، مباغتاً ومدوياً ؛ كي يسمعني : رخييييص
ويستعجلني محفزاً لهفتي من جديد ، للمفاضلة بين الألوان واقتناء
أجملها .
أتقدم بخطوة خذلها الحرمان ،وأتمتم يا لغرابة أبي كيف أصبح الغالي رخيص ؟ !
يرمقني بنظرة العارف ،لما يدور في أعماقي ،وكأنه أصيب بفرحٍ
مباغتٍ ،لحيرتي وذهولي!
أهو فرحٌ ، لأنه تمكن من إدخال البهجة الى نفسي؟
أم لأنه استطاع ،أن يزجني ، في دوامة مقاصده ،البعيدة القريبة ؟
فالأمر مفتوح ،على كل الاحتمالات.
دخلت في فتنة اللون، وأخذت قماشتي بين يداي، وقبل أن أتحرك
من مكاني ،شد على يدي بحرارة وصلت إلى نقي عظامي،
ومشينا باتجاه البيت .
على الدكة الطويلة ،أمام الباب، جلس وأجلسني بجانبه ،وقال :
نستطيع ، أن نؤجل أحلامنا ، قليلاً أو كثيراً، مقابل أن تستمر
دورة الحياة، بحس الطاعن في التجربة ، أدرك أنني لم أفهم ما
يعنيه، فابتسم ابتسامته الجدية ، وتابع بصوت أكثر رخامة، في
المرة الأولى ، كنت أملك مبلغاً، بسيطاً من المال ،يكفي لشراء
قطعة قماش، لكنه لا يكفي أجور خياطتها ،هذا يعني ،أن قطعة
القماش ،لن تتحول إلى فستان ، تلبسينه ،وتفرحين به ،إلا بعد
حين طويلٍ ربما ، بينما لو وضعنا المبلغ ، في حراثة الأرض
وزراعتها ، كما فعلت ، في غضون أشهر قليلة ،ستلبس
الفراشات فساتينها الجميلة، وتبارك حقول القمح ،فنحصد ثمار
بيادرها، وووو
أما الأن ، وقد جنينا المحصول ، وبات ثمنه ، بين أيدينا، فقد
أصبح الغالي رخيص ، كان هذا أول درسٍ تعلمته .
بعد مرور ،أكثر من عشرين عاماً ، وفي إحدى زيارات أبي
المتباعدة ،جلس يتأملني وما حولي ،وحالة من الاستقرار،
والأمان والرفاهية، تحيط بأسرتي ،يتأملني بحبٍ عميقٍ ، مراهناً
على نضوج الأنثى في داخلي ، ما أعادني لاسترجاع يوم الألوان
بتفاصيله ، فضحكت :
- أتذكر يا أبي
- بلى، أذكر جيداً ولأنني أذكر "خبّي قرشك الأبيض، ليومك
الأسود "
قالها ومضى ، ولكن هذه المرة ،لم أنتظر تفسيراً لقصده ، فقد
وصلت الرسالة بحذافيرها .
عملت بنصيحة أبي ، فقسّمت قروشي لأربعة اقسام .
القسم الأول : اشتريت به قرباناً ،قدّمته للسماء ،علّها ترفع
عنانها قليلاً، فتطول قامة أحلامي ،وتُعِدُ غيوماً هاطلة ، تروي ما
جف منها ،وتجدّل خيوط شمسها ؛لتنضجها .
القسم الثاني : اشتريت به مكتبة غنية ، رويت منها شغفي،
بالحروف والألوان ، ورتبت بها أجنحة الفراشات ،تحت ضوء
القمر.
القسم الثالث : اشتريت به أساور ،لا تشبه في رنتها وحضورها
،خشيش أساور، باعة التجوال ،فقد كانت ذهبية ، بثقة يشاكس
صوتها ،مترصداً أرزل العمر.
تأخذني الحياة ،ولم أفكر بالقسم الرابع ،إلا بعد وقت طويل من
الزمن، حيث قلت يومها ، سأخبر أبي بما فعلت، وأطلب منه
المشورة ، أين أنفق بقية قروشي ؟
لكنه للأسف...... مضى .... ومضى .... بعيداً ...........ولكن هذه
المرة إلى غير رجعةٍ .
فذهبت ،واشتريت بها حبراً وورقاً ؛ لأخبركم في سطور، إلى أين
ذهب أمثال أبي .
كما قالت الحكاية : كان ياما كان ،في قديم الزمان ......
مقدمة من حكايا عطر البراري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

الوجع ‏Diya Raman

سألت الدهر : متى ستمر سحابة الألم ؟ و متى ستمد يدك و تنقذني من الغرق من بحر الأوجاع ؟ أيها الليل كم أنت طويل !. مثل حقل شوك أمشي حافية في در...

المشاركات الاكثر قراءة