فتح الباب بقوة بإحدى المفاتيح الكثيرة المعلّقة دائماً ببنطاله الذي يكاد ينزلق منه من شدّة ثقل المفاتيح لولا الحزام الذي يشدُّ البنطال الى خصره.
دخل البيت مسرعا، وأصوات مفاتيحه تسبقه، بدأ ينادي بصوت مرتفع على زوجته التي هرعت إليه لمعرفة سبب صياحه و هياجه، بناته أيضاً سمعنَ صوت الأب، فأسرعن بالخروج من الدار إلى ساحة البيت و الدهشة بادية على وجوههن و الكثير من الخوف أن يكون قد حدث مكروه ما في العمل نظر أبو أحمد إلى زوجته وبناته ونار غضبه يكاد يحرقهن ، وهن قلقات ترتعش اطرافهن،وجحظت عيونهنَّ، وهن يسألن عن سبب صراخه، والخوف يملأ قلوبهن وقد ازداد خوفهم عندما شاهدوا نظراته الحادة التي بدت كمخرز ينغرز في قلوبهن ، ووجهه العابس الذي ينطق بغضب واحتقارٍ شديدين، وبصوتٍ عالٍ وحاد قال لزوجته : هيا أمامي إلى الغرفة أنتِ وبناتك، وهنا زاد خوفهم،وقلوبهم دقت بقوة و كأن البيت يعلن صدى دقات قلوبهم بهلع شديد ، بخطوات متردّدة مرتعشة سارت الفتيات خلفَ الأم بحذر إلى الغرفة التي ولجها الأب مسرعا،التقط عصا الخيزران الموضوعة على المشجب تلك العصا التي أصبح عمرها أطول من عمر بعض أبناءه والتي يخشاها الجميع، بل حتى النظر إليها، فطالما ذاقوا منها الويل، ويتمنى كل واحد منهم لو يملك القدرة على كسرها وحرقها ليتخلّصوا منها و من سطوته، بدأ أبو أحمد يهزُّ العصا في وجه زوجته وبناته و يُمطرهنَّ بوابل من الشتائم و أردف صارخا موجها حديثه للأم المغلوبة على أمرها:هاتي قل لي الحقيقة! هل تحدثت ابنتك مع لقمان صديق ابنك أحمد ؟ كان لقمان هذا صديقاً حميماً لأبنه البكر، ويعمل مدرّساً سمعته الحسنة تسبقه ومعروف بأخلاقه العالية في الحي، وكان لقمان قد تحدّث للكثير من أهله ومعارفه وأصدقائه عن نيته بالتقدّم لخطبة ابنة أبو أحمد وذلك بعد انتهاءها من تقديم امتحانات البكالوريا.
تجمّدت الأم مصدومة، وبناتها مستغربات امام سؤال الأب. ردّت أم أحمد : ماهذا الهراء...أي كلام فارغ هذا.. ابنتك لم تتحدّث مع أحد من الذي اخبرك بذلك..؟ - لا يهم من أخبرني هيا قولي الحقيقة أنت وبناتك العاهرات ماذا تفعلن في غيابي؟ قولي وإلا سأقتلك أنتِ وبناتك حالاً؟ ، وبدأ يشير إلى درج الخزانة الذي يخبّأ فيه المسدس و صياحه يعلو أكثر وهو يتوعد الجميع بالضرب والقتل ، وسط لجة الخوف و الأستغراب من ردة فعل والدهم لم يملكن من الأمر سوى طلب الرجاء منه ان يسمعهم ان يصدق كلامهم وسط دموع بللت عيونهم البريئة و عويل بكائهم ، والأب يتوعد ويهدد صارخا بقتلهم و بدأ بضربهم بتلك العصا القاسية، وبكلِّ ما يملك من قوة لا يفرق بين بناته او امهم وهو يكرر:قولوا الحقيقة و ألا كسرت عظامكم. اختلطت أهات البنات مع صوت بكاءهم المخنوق وكلُّ واحدةٍ منهن تضع يدها على فمها محاولةً كتم صوت بكائها كي لا يسمعهن الجيران، البنت الكبرى كانت تردد من دون توقف وبصوت مرتعش : لا لا يا أبي لم تتحدّث ، أُقسم يا أبي لم تتحدّث . أما الوسطى فكانت معلّمة وتمتلك القليل من الجرأة فاستطاعت التغلب على خوفها والحديث مع والدها فقالت له : أبي في الحقيقة اتصل بنا لقمان مرتين وأنا من ردّت على الهاتف وقد طلب مني أن يتحدّث مع أُختي زينب وكنت واقفة إلى جانبها أثناء المكالمة وقد سألها عن المركز الذي ستقدّم فيه الامتحان ورقم قاعتها فقط وذلك ليوصي بها بعضاً من زملائه المدرّسين، أقسم أن هذا ما حدث فقط و ليس شيئا اخر ، وقد قال لنا أنه طلب الإذن من أخي أحمد ليتحدث معنا .أكدت الابنة الكبرى حديث أختها والأم أيضاً أما زينب طالبة البكالوريا التي صمتت و تجمدت في مكانها و لم تستطع التلفّظ بكلمة واحدة،خانها لسانها ان تنطق بحرف واحد، اغمضت عيناها عن رؤية المشهد بشدة ثم تعاود فتحهما بحذر..تراقب مرتعبة الى ما يجري حولها بسبب محادثة هاتفية عادية ولم يُسمع منها سوى لهاثها المتقطع.
سمع الوالد كلام الجميع، بدأ الغضب يرحل عنه شيئا فشيئا، وتضغنات وجهه تنفرج وعادت عاطفة الأبوة تتغلغل إلى قلبه.. تبدّلت نظراته القاسية لعيون بناته التي استقر فيهما الخوف و الرعب، أشفق عليهم، واستمع لحديثهن وهو الذي قد اعتاد منهن الصدق والصراحة . كان أبو أحمد واثقاً من بناته وأخلاقهن وواثق من الخوف الشديد الذي زرعه في قلبهن ومتأكد من عدم قدرتهن على القيام بعمل يغضبه ، لكنه لم يشعرهم يوما ما بهذه الثقة، ولم يمدحهم أبدا،.. عاد يتحدث بلهجة أقل حدة من قبل متسائلا من جديد: هل هذا ما حدث حقاً ؟ كررت الأم والبنات بأنها الحقيقة ولا شيء سواها . اقتربت الأم من أبو أحمد وقالت له : يا أبو أحمد كيف تشك في بناتك وتربيتهن فبناتك لا تحملن سمّاعة الهاتف إلا للضرورة ولا تخرجن من البيت إلا إلى المدرسة ، وكل الجيران والأهل يتحدثون عن أدبهن و أخلاقهن العالية . أما لقمان فقد فعل ذلك لمساعدتها في النجاح وليتقدم لخطبتها وأنت تعلم هذا جيداً ، طلبت منه الجلوس قليلاً و أخذت تتحدث معه بهدوء وحكمة حتى تمكنت من إخماد النار المشتعلة بداخله واستطاعت أن تقنعه بما جرى معهم في الحقيقة . طأطأ الأب رأسه وبدأ يفكر بعمق ثم رفع رأسه ونظر إلى بناته والندم واضحٌ على محياه، وفي نظراته، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة تريح قلب بناته وتظهر حبه لهن وندمه على ما فعل بهن،و لم يعتذر.
سألته أم أحمد مرة أخرى : من أخبرك بهذا الهراء يا رجل؟ رد أبو أحمد : ابنكِ أحمد ..... لقد أخبرته زوجته أن ابنتك زينب تتحدث لساعات طويلة مع لقمان، وهي الآن تسمع صوتي . صعقت الأم والبنات مما سمعنه وبدأت الأم تلطم وجهها ورأسها و تولول قائلة: لماذا يفعل ابني هذا ؟ لماذا..؟ لم يأتي إليّ؟ لما لم يخبرني بذلك ان أخطأت أخته ؟
رد أبو أحمد : لا أعلم ... حين يعود البيت أسئليه لماذا فعل ذلك! ثم قام مهموما حزينا وهو يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أنا عائد إلى العمل . وخرج أبو أحمد من البيت ، وبقيت الأم وبناتها في حيرة واستغراب لما قام به ابنها وزوجته وأصبحت تندب حظّها وحظ بناتها وبعد أيام قدمت زينب امتحاناتها وأعلنت النتائج بعد فترة،و نجحت زينب دون مساعدة من أحد أو وصاية، دخلت السعادة إلى قلبها و قلب امها و اخواتها، ولكن لم يدم ذاك الفرح طويلا، فقد سمعوا بعد أيام أن لقمان قد تقدم لخطبة فتاة أخرى...
* كوثر شريف مارديني:
-كاتبة كردية سورية ناشطة نسوية تنشر كتاباتها في الصحف و المواقع الالكترونية.
-خريجة معهد لغة عربية
-عضو في اتحاد المثقفين في اقليم الجزيرة _فرع الحسكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق