(القراءة بقلم الشاعر و الناقد حامد المحضاوي)...
صدفة اطلعت على نص "أبيض فاتح" لصاحبته هند زيتوني ، أنخت ناقة انتباهي عند هذه السطور. رأيت بأكثر من كاميرا زوايا الراهني والآتي. في معارج النصّ أقبية وفتحات، ينساب الضوء في أعماق الإنساني، مكاشفة لزوايا المنسيّ أو بصورة أدقّ فضح لورقات توت لم تعد تخفي عورة العالم. تركّب الشاعرة نسقيّة نصّها على محامل متنافرة موت الحياة، حياة الموت كي تقارع مشهديّة ثابتة. في التّضمين تنشيء إيقاعا داخليّا للموضوع كأنّه متابعة لصدى ينادي. هذا الاسترسال يعتّق أنخاب المراحل عبر تيمات متطاولة ومثوثّبة تجامع بعضها بعضا كي تبني الآتي. وإن كان الفناء فانّه بارشادات حيّة تعاكس التّشابه. هذه الهسهسة الداخلية في اختلاجات الكاتبة كانت وارفة على ڨيتارة الهمس العازف بين السطور. اللّحظة المائزة في النص لا تجري الحدود بين ترصيف القول والمعنى، إنّما تنساق على اطلاقية النص وفي ذلك دعوة مكشوفة لمقارعة اللحظي خارج عقارب الساعة من هناك يصبح الموت خيارا وجيها لبناء تصوّر حياتي مضادد.
"ساشرح للجميع بأن الموت هو بحر الموسيقا الصاخبة التي سنغرق فيه يوماً ما .
سيكون الكون قبراً جميلاً لا مكان فيه للعبث أو الفوضى"
تسحب هند الإمكان من الآتي وكأنّها تعتصر سيوران على طبق العالم. في الزاوية الضديّة لا تشي فقط بالموت ولكن تحوّله لبحر، في أتونه السحيقة كنه عمق يتطلّب الإبحار وفي ذلك مقارعة لمفهوم الغرق في معناه الخاص.
الموت يتحوّل عند هند إلى رحلة تطلّب رفقة (شاعر، عازف جاز، ممثّل) هذه الدعوات تفتح مونولوجات خاصة تؤثّث عبرها الشاعرة خيبة الفردي المعزول، تهرب إلى حواريّة وليدة، لا تبتغي عبرها السؤال والإسناد بقدر ما تبني عبرها صراطا للخلاص عن الواقعي، بحسب عبارة نيتشه "لنا الفن كي لا تقتلنا الحقيقة" الشاعرة تستدعي الشخوص بصفاتهم الفنيّة لا بأجسادهم، ويغزونا هنا قول أدورنو: "الفن اعتذار عن قبح العالم"
هذا المدى ينفتح على مقاطع النص وأضحت الرحلة عبره شيّقة ومنهكة في آن، رحلة تلملم عبرها هند شوائب وعوالق وبقايا الإنساني حتى تصل إلى خصوصيات جمعيّة ثاوية في الراهني (بؤساء، أطفال، الفتيات الصغيرات، الشباب الفقراء، أشباه الأحياء) كأنّ الشاعرة تفضح حفلات الشواء البشري بين أيدي الوقائع. الرحلة واتساع الرفقة يحفل في آتونه بانتفاضات ذات الشاعر التي تصير في النص إسفنجة تمسح الأدران عن طيني العالم، في ختام الرحلة تنشيء جماعا جريئا لكل ذلك مع اللامرئي، حيث تصعد إلى عنان الالاهي
"كان علينا أن نقنع إلهَ السعادة ليكون العازف الوحيد"
تسترشد في ما بعد لعود على بدء لذاتها، هذه الدائرة التي تدوّر التكرار في الفردي لتشي بسخريّة مضمّنة تطلب عبرها سد رمق جامع
"سأطلب من ظليّ المتمرد أن يدربني جيداً ، على قيادة حصان دونكيشوت
ذلك المخلوق الأعجف ؛ الهزيل. لأصبح بطلاً أسطورياً وثرياً
لأطعمَ شعبي الجائع .
تنتهي الشاعرة إلى متخيّل فردي (الحبيب) تلملم في ظلّه ذكرياتها البسيطة، حسب قول جيل دلوز "لابدّ لنا من ذاكرة قصيرة" وتقفل دائرة الرحلة عبرها بقتال طواحين الشيء المعتاد، كي يصح رغيف العالم.
الرحلة في النص دائرة أتقنت عبرها الشاعرة تأثيث خط نارها كأنّها أحاطت الكرة الأرضية بألسنة إحتراق واستدعت في طباقتها تضمينا لدرجات العقوبة وجحيميّة المتاح عبر إستدعاء عملي لدانتي، دائرة التضمين مكثّفة في معاول حفر المعنى عبر إستدعاء هند للمعاجم المتنوعة (طبيعيةّ، فنية، سماويّة، اسطوريّة، جسدية) حيث مكّن هذا التوالد والتلاسن من بناء صورة مزدوجة متناغمة بين إيقاع داخلي متدفّق ونهر ظاهري يلملم الضفاف.
(النص الشعري للكاتبة و الشاعرة هند زيتوني)
أبيض فاتح
عندما سأقترب من الموت
سأفضّل أن أُدفن مع شاعرٍ كبير ؛ لنتحدّث قليلاً عن القصائد
التي تسقط سهواً في بحر الليل دون ان يهتزّ لها جفن .
وعن جحيم دانتي
و أخف العقوبات المتاحة هناك ؛
عندما يحشرون في أفواهنا الفواكه المرّة واللاذعة
عندما أجوع سيمنحني ملاكٌ مطيع حبة توتٍ شوكية
لأنني كتبتُ قصائد كثيرة عن نعومة نهد المرأة
الجميل الذي يشبه رمانة يانعة وعن خمر شفتيها .
ولأنني شبهت الرجل بذئب مريض تحمّر عيناه فجأةً لو تجاهلته زوجته في المساء
ونامت لتلعنها الملائكة .
سأفضّل أن أُدفن مع عازف جاز
لأدعو الميتين إلى حفلة موسيقية صاخبة.
بقيادة بيتهوفن وشوبان وموزارت ، ليعزفوا أغنية سماوية للبؤساء الذين قضوا
قبل أن يسمعوا لحناً جميلاً أو يتذوقوا شهد النساء .
للأطفال الذين خُلقوا مع طبول الحرب ويدهم على زناد البنادق .
للفتيات الصغيرات اللواتي أصبحن أمهات قِبَّل أن يحضن .
للشباب الفقراء الذين بلا زواج ، يستمنون خفيةٍ في الحمامات ، الخلفية و المتهالكة .
ساشرح للجميع بأن الموت هو بحر الموسيقا الصاخبة التي سنغرق فيه يوماً ما .
سيكون الكون قبراً جميلاً لا مكان فيه للعبث أو الفوضى
لو أنني مُتّ مع ممثلٍ كبير سنكتب معاً قصةً طويلةً عن أشباه الأحياء
الذين يحلمون بالحياة البسيطة ، وحقول الحنطة
وكأس من الشاي الدافئ في المساء .
لو أنهم حرسوا أحلامهم ؛ لما حصل كل هذا الحزن الكبير
كان علينا أن نقنع إلهَ السعادة ليكون العازف الوحيد
سأطلب من ظليّ المتمرد أن يدربني جيداً ، على قيادة حصان دونكيشوت
ذلك المخلوق الأعجف ؛ الهزيل. لأصبح بطلاً أسطورياً وثرياً
لأطعمَ شعبي الجائع .
سأبحثُ عن حبيبٍ لأهديه انتصاراتي وأدواتي الموسيقية ونقودي المزيفة، وصوري بالأبيض والأسود. وصوري بالأبيض الفاتح ، وخمري وجواز سفري الأجنبي .ومكاني الوثير في الفردوس .
سأعاقب طواحين الهواء كي لا تنشر الشرّ في العالم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق