كم من قصيدة تحملك إلى فضاءات لا حدود لها، وعوالم لا يسع الأفق مداها، عوالم وفضاءات يضيق بها الكون الفسيح، وتتزاحم فيها الكلمات وتحلق كسرب فراشات تحوم في سماء معنى بهي وسحر لا منتهي.
لا جناح لي...المجموعة الشعرية التي صدرت مؤخراً عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع للشاعر الجميل جميل داري تحلق بألف جناح في عالم الشعر الأنيق والمعنى الشفيف، وبعد تجربة ناضجة لشاعر يتقن ترويض الحروف وتطويع الكلمات وعلى قدر من الدراية التامة والمهنية التي ينثر من عطرها على قصائده؛ في صياغة جديدة وملامح تجربة فريدة تلقي بالرتابة بعيداً، وتحفز على القراءة والعودة من جديد إليها والسؤال أن هل من مزيد؟، فمجرد قراءة واحدة لا تكفي للتشبع بعذوبة الحرف وعبق المعنى:
"خذيني إلى ظلِّ قبري
دعيني أودِّعْ حياتي
فلمْ أرَ فيها حياةً
ولنْ..
إذا ما عجزتِ
عن الحبِّ والياسمينِ
وعن عودتي من رميمي
دعيني إذاً"
هكذا يرفض شاعرنا الواقع الجاثم بكل آلامه ومحبطاته فوق صدر الأحلام والآمال، فما قيمة الحياة إن خلت ممن نحبهم، وإن نأت الأمنيات الجميلة والأحلام المحلقة في فضاءات من الصفاء والنقاء مزدانة بالحب وعبق الياسمين.
عالم الشاعر جميل داري الجميل لا حدود له وفضاءه لا متناه، لذا يعمد إلى عنونة مجموعته بـ "لا جناح لي" لكنه يحلق في فضاء الكلمة والمعنى بألف جناح وجناح.
" خذيني إلى أيِّ منفىً
فقدْ ضاقَ..
ضاقَ الوطنْ
ولا تخبري عن مكاني الزَّمنْ"
الحب والجمال والاندهاش "الحضاري" والجمال المتمثل في اشكال شتى تنتشي في ثنايا قصائد داري وبين مفردات قصائده التي جاء أغلبها معدودة الكلمات لا متناهية في عمق المعنى، واسعة كالأفق ناضجة في كل مفردة منها، فكانت قصائد سريعة الوقع في قراءتها؛ طويلة في تأثيرها، عميقة الوقع في نفس من يقرؤها، غير بعيدة عن الواقع، في سموِ يرتقي عن السطحية في المعنى:
"أغني إذا صمتَ الكونُ
حولي وماتْ
فخارجَ حنجرتي
تصدأُ الكلماتْ
وأركضُ حتى نوافذِ حلمي
أدقُّ على العشبِ
حتى يفورَ
وحتى يقومَ على قدميهِ
المواتْ
ففوقَ لساني
قوافي الكلامِ
وتحتَ لساني
منافي الشّتاتْ"
الحاضر حاضر بكل ثقله في قصائد جميل داري، وللأمكنة حديثها، فلا المكان ولا الزمان في منأى عن فضاء قصائده، فها هي بيروت تتربع في صدر المجموعة لتحكي عن الوجع العربي والمعاناة العالمية، والهم الانساني، كنموذج للعديد من المدن في زوايا متناثرة من العالم:
"كلُّ المدائنِ في عينيَّ من حجرٍ
ووحدَها في مرايا القلبِ ياقوتُ
منكوبةٌ هذهِ الشّمّاءُ، جائعةٌ
ومنذُ مسغبتي كانَتْ هيَ القوتُ
فكيفَ أنسى التي قد أرضعَتْ ظمئي
لا يُنكرُ العُرفَ إلّا الجاحدُ الحوتُ
بنى محامدَها قومٌ جهابذةٌ
وها يدمّرُها قومٌ طواغيتُ"
لداري نصيب في كل ما حوله من وجع، وله حصته من الهم الانساني الذي يعم العالم، والكوارث والحروب والتناحر في كل صوب، حتى يضيق قلبه بكل هذا الهم، ويتكدر خاطره رغم كل الفرح الذي يصنعه لنفسه ولكل من حوله، فهو منهم واليهم وها هو في قصيدة "وباء" يرى إن الخطب عظيم وأن لا فرق بين الناس أمام الموت القادم وأن الضعفاء كما في كل كارثة هم المتضررون أكثر من سواهم.
"في منتصفِ الموتِ
وخاصرةِ الوقتِ وباءُ
أقوى من أقوانا
وضحيّتُهُ الضّعفاءُ
أعلى من أعلانا
لا تردعُهُ أرضٌ وسماءُ"
يغوص داري عميقا في عوالمه متعددة الاطلالات واسعة الفضاءات وككل الشعراء المخضرمين لا يفوته ان يعرج على عوالم الحب والعشق والجمال الروحين ويحلق بين الفينة والأخرى في سماء الحب والغزل البهي والنص الشهي حتى لا تكاد خلجة من خلجات الشعر تفوته.
"أتدرينَ أنَّ القصيدةَ فيكِ
صلاةٌ ونخلٌ وقمحُ
أتدرينَ أنّ محيّاكِ
إنْ عبسَ الكونُ سمحُ
فلا بدّ أنْ أحرقَ الآنَ نفسي
لأولدَ طفلًا يسطّرُ حرفًا ويمحو"
ويقول في قصيدة أخرى، وفي تساؤل مشروع آخر لا يخلو من الصياغة المتفردة والمسحة الابداعية المخضبة بتوقيع جميل داري:
أستجيرِ منَ النّارِ بالنّارِ
أعرفُ أنَّ القصيدةَ فارغةٌ دونَ عينيكِ
أعرفُ أنّ الحياةَ خريرُ سرابْ
حدّثيني عن البحرِ
موجي قليلًا
وجنّي قليلًا
لعلّكِ تلغينَ هذا اليبابْ"
ما بين صورة حالمة وتعبير بهي يسبح في تخوم الكلمات وفضاءات المعاني العبقة ينتقل الشاعر جميل داري وينقلنا معه على جناح القصيدة والكلمة المنتقاة بحرفية شاعر، وابداعية رصينة حملتها مجموعته الشعرية "لا جناح لي" التي كتب مقدمتها الدكتور أحمد فراج العجمي، وجاءت لوحة الغلاف بريشة الأديب والفنان أديب سالم، لنحلق مع الكلمة والمعنى بألف جناح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق