التهويمات النقدية المرفقة في آخر المجموعة الشعرية"أمتلئ عشقا منك"للشاعر"فريدون سامان"لا تعدو أكثر من عبارات إنشائية مرصوفة الى بعضها،أو هي جاءت بمثابة انطباعات عابرة،أراد لها كتابها أن تكون نقدا،وما هي بذلك،ومن ثم فانني لم أتوقف عند أيّ منها،اذ هي كما أزعم أساءت لتجربة الشاعر المتحققة أكثر مما أفادتها،ذلك أن ما بين يديّ من قصائد تستحق، من دون شك،تطبيقات نقدية إجرائية،سواء كان ذلك ينتصر لها أم ضدها،على ضوء جمهرة المذاهب النقدية المعاصرة،اذ حين يتحدث الشاعر عن مذبحة"حلبجة" التي دخلت التاريخ السياسي،كأفظع عمل بربري متوحش،عاشته هذه المنطقة المنكوبة بضغائن الحكام الصغار،عبر تاريخها الغارق بالدم والدموع والآلام، فإنما يتحدث باعتبار أن الدمار الذي لحق بها،حيث أراد لها البرابرة الجدد /القدماء،القادمين من صحارى"عرعر"الوثنية،أن يظل دمارا أبديا للضرع والزرع،انما هو يعدُ انتصاراً لبسالة الإنسان الفادي،في كل زمان ومكان، وقد رفع من سقف النصر المغموس بالتضحيات الجسام، صيغ بلغة شامخة، من دون بكائيات منكسرة، ومن دون ندب خجول ذليل، ولا سُباب أو شتائم الضعفاء، انه هجو القتلة الذي لا يدانيه هجو، لغة مترفعة مستهزئة من نوع:[ خاطبهم وقل لهم] وبلهجة من لا يزال [يضع التاج على رأسه]وليس كما توهم الغزاة، من أن التاج أمسى تحت أقدامهم، ذلك أن المعارك المصيرية الكبرى، ستظل كراً وفرا، وان النصر في النهاية،للثابت في المنازلة، وليس لّلجوج المتحول:
[ ايتها الخصلة المتدلية الرائعة
والقزحية الشامخة
على جبين وطنك الذي لا هوية له]
لا تيأسي اذ ثمة:
[ شمسٌ تشرقُ على غير موعد ]
الصحراويون الهمج الذين عملوا ذبحاً في "قبج"سهول كرميان،حيث يتناثر بقايا رماد عظام الأطفال،وردموا الينابيع الدفّاقة، وشتتوا غزالات الجبل الرائعات، بعد أن أصابوهن بالذعر، غير أن "كرميان" تظل على كرمها وكبريائها،اذ تأبى الا ان تجعل [كالراحلة ليلاً] من ضياء الحرائق سلالم لمسيرها الصعب، وفيما يحاصر الصحراويون قلعتها[ بالمنجنيق والسلاسل] تكون هي في منأى من شرورهم ملتحمة بالشمس..
ثم أن هذه القرابين،على جسامتها لا بد منها لكي تُبنى الممالك المنشودة،حيث لا مكان فيها[ أبداً]:
لـ[جاسوساً يكتب التقارير
أو مسجّلة سريّة
ولا حُماة القانون فيها
مسلحون بالبنادق والسيوف]
وحتى يعيش الناس أحرارا ويتجولون في مملكتها من دون أن توقفها [ نقطة تفتيش]ترميهم بأسئلتها الاستفزازية وهم يرتجفون خوفا وغضبا مثل:
[ تائه ضال خلف
ابتسامتك الحزينة المنكسرة الخاطر]
اصبر –أيها الإنسان الكوردي- وجالد مصاعبك، وليكن أمامك موعظة مصائر انبياء عظام"زرادشت،وعيسى، والحلاج"اذ الأول اغتيل بخنجر مسموم،والثاني أوثقوه بالمسامير على خشبة الصليب،أما الثالث فقد رمى به المسوخ في المحرقة،ولكن- وهذا هو بيت القصيد- حين نتذكرهم،وما أكثر ذلك، نخرّ لهم ساجدين،اما الجلادون فستظل اللعنة رفيقتهم أبداً،ومن ثم:
[ اطمئن
لا تنمو الوردة على نصل الخنجر]
ولأن اللغة ليست وسيلة كما أفهمها،إنها مصير، بمعنى أن الأديب سواءٌ كان فوضويا أم أممياً، لا بد أن يكون كاتبا وطنيا، وهذا ماتحقق في هذه القصيدة المثيرة للشجن والفرح معاً!!
ثم أن عملية الابداع ذاتها فعلٌ جمالي،وأنه لا بد لكل ابداع من جماليات خاصة به، وجدنا أن قصائد المجموعة،تزخر بالصور السوريالية وغيرها،السوريالية ممثلة بهذه الباقة التي وجدت فيها صوغا أدبياً مثيرا:
[والكلمات رفرفتْ بأجنحتها وطارتْ] [عُصفورٌ ما،يسلّم قصص الذكريات لحارس المقبرة] [ويحدقُ في الابتسامة الصافية، الأجمل من الجمال] [أتقرفص كغريب،كل مساء عند الغروب][وقبل أن تفتح عروس الشفق، وشاحها الذهبي] [وتشربٌ هي قدحاً من الابتسامات][ومثلما ترتدي الورود الحمر من جراحها،ثوبا أحمر] [ أطرق على رأسي عبثا،مثلي كمثل قنينة فاليوم،لا أنعم بالنوم] وغير ذلك الكثير من الكلام الماتع،أما ماهو غير سوريالي فسنجده معبأ في جراب ذكرياته المروعة:
[ النحلة ثُعبان هائج شرير، والعسل سمٌ قاتل] [المدينة الكبيرة الواسعة مقبرة، لكن للأحياء الذين يحرسون،عروس وتيجان الأصنام] وان الناس وقد امتسختْ في أكثر من جانب من جوانب حياتها القلقة،غدتْ لاتكف تسائل نفسها:[ هل أنا هو نفسي،أم لستُ أنا]..
حسناً كان"رامبو" ساخطاً لأن( سماء أوربا مغطاة بالحديد والسخام) وكان"اليوت" ساخطاً لأن الأرض امتلأت( بالرجال الجوف)وكان "السياب"ساخطاً لأن( ما مرّ عامٌ والعراق من دون جوع)أما شاعرُنا"فريدون"فساخط هو الآخر، وسخطه متأتٍ من أن(حورية البحر) بنت "كويستان"المقدسة،أمستْ( جارية في فيافي بدو عرعر، ومن يماثلهم) ليس هذا فحسب،بل يصرح في سخرية مريرة:
[لكن الطاووس الذي يمشي متباهيا مغروراً
أراني صورته ثم مضى]
[ ومن دنان الخمر تلك
أهداني حبة من العنب]
فنتساءل عمن يكون ذلك "الطاووس"، ثم نتخيل أيّ بخل يعشش في مسامات ذلك الشحيح التعس؟
ولأنه يستحيل على المبدع أن، يكون حداثويا في الشعر،سكونيا في نهر العالم الصخّاب، لذا فشاعرنا، كما عرفتُ، سبق وأن قاده نشاطه الوطني والإنساني الى السجن،أيام حكم بدو عرعر، والحكم عليه بالإعدام، ثم بعد ذلك جرى تخفيف الحكم الى المؤبد،بمعنى أن الضغط العنيف على وجدان الشاعر المرهف،جعل منه أن يتخذ أحياناً،موقفا عدائيا من العالم الذي كان يلزم جانب الصمت المشين،إزاء ما كانت تفعله عصابة البدو الجلّف بالعراق، من شماله الى جنوبه،من إبادة جماعية،اذ صرّح من دون لبس،أن من مهامه هو العمل على تغيير فيزيائية الأرض المضحكة:
[أتيتُ كي أرفس الكرة الأرضية
التي لا زالت على ظهر السمك
وفوق قرون الثيران]
شاهدتُ ذات مرة عبر أحدى الفضائيات،نساء كورديات يتحدثن،في مباهاة وسعادة،كيف تزوجن عن طريق طقوس الفرسان في الأزمان الغابرة"الخطف"حيث يقدم المحب،على خطف حبيبته،على صهوة حصان مسروق،يذهبان بعيدا عن القرية ويتزوجان، ثم بعد فترة من الزمن،يعودان الى مضارب الأهل الذين يستقبلوهما بروح المسامحة والترحيب،فاعتبرت الأمر مجرد مزحة،غير أنني حين توضحتُ الأمر عن طريق بعض الأصدقاء الكورد،أكدوا ما ذهبت اليه نساء التلفاز الجسورات، ثم جاءت قصيدة شاعرنا"نجل الرماد"لتأكد الأمر على نحو إبداعي،الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا نجزم أن"فريدون"الشاعر،تنطوي أعماقه على حنين مكبوت،لأفعال من هذا النوع، حيث تلتهب جلية، روح التحدي والمجازفة والاقتحام،روح الإنسان الحر المتمرد،على "الثوابت!"بمسمياتها المعروفة وغير المعروفة، التي أمستْ أصفاداً :
[تلك، من هي ؟
تنتظر قدوم سارق فرس
ليحملها معه
في هذا الأجل غير الموعود
كي يقرأ كفي سعادتها]
لهذا كله وغيره الكثير، مما لم تسعفنا الظروف للوقوف عنده،توجب علينا من باب الوفاء لهذه التجربة الشعرية المتوهجة،أن نعترف إننا أمام شاعر أنضجت التجارب والأحداث،مرّها قبل حلوها، ثمار غابته الشعرية،فجلس مثل حكيم وسطّ ر لنا تلك التجربة شعرا مهما،عبر صياغة فنية ناجحة، أفرز مضامينها الملتهبة،الواقع الشرس الذي عاشه الشاعر، مع شخصياته التي أتينا على بعضها،فأعطاها ماتستحقه، سواءٌ من الثناء أم الهجاء معا،محققا لنا كقراء، متعة الصوغ الفني من جهة،ومن جهة ثانية معرفة لما تضمه صفحات متاهات العالم الذي نعيش فيه، وبذلك حقق ما يسميه نقاد الفن المتمرسون: الإبداع متعة روحية، ومعرفية إنسانية نبيلة!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق